الأربعاء، 26 ديسمبر 2018

نشرت هذه السلسلة في منتديات ورد للفنون وفي منتديات المحبرة
وفي منتديات منابر ثقافية..وفي منتديات عيون هالة..عام2007

حكايا جدتي

طلبت من صديق لي يعيش حاليا في الريف
أن يجمع لي حكايا جدته التي سمعت الكثير 
عنها و طمعت أيضا في أن
أحصل منه على ذكر لبعض ما جرى له هناك في الأرياف
من قصص وأحداث أعرف أنه يبرع في وصفها وانتقائها..
فكتب لي يقول:
كل من عرف جدتي أحبها..كانت تملك مخزوناً هائلاً
من الحكايات العامرة بالجمال والموعظة..كانت تحب
أن أقرأ لها القصص مهما كان نوعها وكانت تحب أن
تعلق على أحداث القصة وتمتدح الطيبين من شخوصها
وتضرع إلى الله بعيون دامعة أن يتولى أمر الأشرار..
أما أنا فقد كنت شديد التدقيق في اختيار القصص التي
أحضرها لها معي من المدينة كل صيف..وكنت أكتشف
كل يوم قصة جديدة حفظتها جدتي من مكان ما ..
كنت أركب سيارة متهالكة تئن كثيراً وهي تصعد طريقاً
جبلية ساحرة تكتنفها كل أنواع الأشجار الحرجية..
وتفوح روائح النباتات البرية العطرية مع كل هبة نسيم..
وعندما أصل إلى بيت جدتي أجد بابا خشبياً مصفحاً برقائق
معدنية مدهونة بلون أخضر محبب..وحالما أدخل الدار تقابلني
شجرة توت عملاقة ومصطبة من التراب الأبيض الناعم النظيف
ً..في كثير من الأحيان لم أكن أجد أحداً في البيت..ورغم
ذلك تكون الأبواب كلها مفتوحة وكأنما هي في انتظاري..وخلف
باب غرفة المعيشة كوة كبيرة في الجدار مظلمة دائماً تقبع
فيها جرة ماء ..كم كنت أحب ذلك الماء ..بارد دوماً..أشرب
منه فأرتوي وأتلذذ برؤية الجدران المطلية بالكلس الأبيض..
ثم أرنو ببصري إلى السقف الخشبي الذي اسود كثيراً من 
دخان الموقد المحفور في أرض الغرفة..لم أصادف هذا
الموقد مشتعلاً أبداً لأن كل زياراتي للقرية كانت في الصيف..
ولكنني كنت استمتع كثيراً بمنظر النار المشتعلة بين حجرين
كبيرين في الباحة الخارجية للدار..كانت الفئران تركض 
وهي تصرخ بين العوارض الخشبيةالسوداء في السقف..
ويتساقط التراب أحياناً فوق رأسي..فئران لها بطن أبيض
ناعم وظهررمادي ..فئران مختلفة غير مقرفة...
وحالما تحضر جدتي تقبلني عشرات القبلات وتبكي من 
الفرح وتسأل عن الجميع..ولا تجلس أبداً..طالما هناك
ضوء نهار لا تقعد..لديها دائما عمل يجب إنجازه..
إطعام الدجاجات ..إبعادها عن بعض الأشياء التي لا أذكر ماهي..
ربما بعض الخضراوات المزروعة..أو بعض الثمار
المفروشة في طبق من القش..ظلال الأشجار كانت مقعدي..
وما أكثرها ..كل ما حولي كان غارقاً في الظل..فعلى
اشجار البلوط صعدت عرائش العنب ورسمت مظلة
كثيفة من الأغصان والأوراق..وعلى الأجزاء السفلى من الجذوع
تسلقت نباتات القرع وحملت ثماراً تشبه جرار الماء ..
وانتشرت أشجار الرمان والتين والخوخ في كل فراغ تحت
أشجار البلوط والسندبان العملاقة..وبين الأغصان راحت
السناجب والعصافير تعزف سمفونية أحلامها وتعلن حدود
ممالكها المنسية الهشة ...وطوال النهار كنت اتأمل ذلك
الخلق البديع لخالق كريم رحيم أعطانا الأمان والسلام وأتساءل
لماذا أنا وحدي هنا يا رب ؟ ألا يوجد في هذه الأرض طفل
صغيرمثلي يحب تأمل هذا الجمال والحديث عنه..وحالما
يأتي المساء ..تدب حياة جديدة مختلفة تماما ..يعود عمي
وزوجته من الحقول والمساكب التي تحتاج إلى عمل دائب
لتعطي ثمارها..ويتدفق سيل كثيف هادر من الأبقار والأغنام
والماعز والحمير فوق الطريق الترابية عائدين إلى المنازل..
وأتساءل أنا أين كان كل ذلك الحشد..وتتعالى الضوضاء
في المنزل ساعة ريثما يأخذ كل حي مكانه ...البقرة في مكان
منخفض قرب السور الحجري المغطى بالحطب اليابس..
والأغنام والماعز في زاوية رطبة مظلمة تحت أجمةا لرمان ..
والحمار قرب النافذة مربوط إلى شجرة التوت ..ويهدأ كل
شيء ويختفي الجميع..أنا وجدتي فقط ..نجلس في الغرفة
التي يتراقص فيها ضوء السراج شحيحاً ضعيفاً..يثيرالخ يال
ويرسم على الجدران مئات الأشكال المرعبة..والفئر ان في
السقف تعزف ألحان شجاراتها المتواصلة..وتبد أ جدتي حكايتها
قائلة: 
اسمع ياولدي ..سأقص عليك قصة الفلاح الذي شاب وهو في
ريعان الشباب..ثم قصة شاب اخر اشتعل رأسه بالشيب حتى
غدا أبيضاً كالحليب بعد أن كان أسوداً كالفحم..ثم قصة أرملة
صالح الشحاذ التي ابيض رأسها كالثلج في ليلة باردة عاصفة..
وتزفر جدتي زفرة عميقة وتتلمس رأسها الأشيب ولا تبوح أبدا
بقصة شيبها هي..وأقترب أنا منها خائفاً وأحس قشعريرة تسري
في جسدي ورعباً يملأ صدري وأكاد أقول لها توقفي بالله عليك
لا أريد سماع القصص المرعبة ولكن جدتي تريد أن تزيح عن
كاهلها شيئاً ما ولن أحرمها الفرصة..وأتظاهر بأنني مقبل على
الحكايا وأنا زاهد فيها رحمة بجدتي التي يثقلها بوح ما.. تريد
أن يشاركها إياه طفل عاقل مثلي..لطالما عاملته بكل تقدير..
وتتابع جدتي الكلام قائلة:
في يوم من الأيام يا سيدنا الأفندي ..وفي ليلة مظلمة ليس فيها ضوء
قمر سقط المطر فجأة على رأس الفلاح العائد إلى قريته من القرية
المجاورة..وهبت ريح شرقية عاوية..فطاش صواب المسكين وراحت
عيونه تجوس الأنحاء بحثاً عن ملاذ فلم تبصر إلا الظلام والخواء
وبصيص نور ضعيف ينبعث من بعيد ..فركض الفلاح إليه مؤملا
ركنا دافئا وجافا يلوذ به من سيل الماء وسياط الريح..وما إن وصل
إلى مقربة منه حتى سمع صوت معازف صادحة وأغاني وضحكات
واضحة..وإذا بعجوز شمطاء أسنانها متباعدة صفراء وعيونها
ذابلة زرقاء تطل تحت نور مصباح شديد الضياء وتقول له:مرحبا
بك يا زائر المساء وياضيف الأسخياء..تفضل وعجل بالدخول إلى
المغارة لتتقي المطر وانهماره وتشاركنا الاحتفال بعرس ابنة صاحب
هذه الدارة..ودلف الفلاح إلى بهو فسيح تحلق فيه جمع حاشد حول
طاولة مستطيلة حفلت بكل لون من الطعام والشراب..ولفرط جوعه
وظمئه شرع يأكل ويشرب العصائر دون أن يسأل عن هوية القوم
الأكابر..ولقد كاد يشبع ويقنع لولا أن سقطت من يده الملعقة فوقعت
تحت رجليه على الأرض..و عندما أقعى ليلتقطها رأى ..ويا لهول
ما رأى ..رأى أرجل الحاضرين يكسوها شعر كثيف كشعر الماعز
وتنتهي كلها بحوافر كحوافر الدواب عافاك الله..ولم ينهض من تحت
الطاولة لفرط رعبه وخوفه بل راح يزحف وهو يرتعد إلى أن وصل
إلى الباب فخرج منه راكضاً لاهثاً لا يلوي على شيء ولا يقف لشيء..
إلى أن وصل مع أنوار الفجر الأولى إلى حدود قريته حيث يتدفق نهير
عذب رقراق الماء بين صخور زلقة ملساء ..فخفف من سرعته
ونظر إلى موضع خطوه وفرائصه ما تزال ترتعد وركبه لا تكاد
تقوى على حمله..وحلقه قد جف واحترق من فرط الإعياء والقلق..
وبينما هو يترنح باحثاً عن مكان يسهل منه نهل الماء رأى امرأة
تغسل كوما من الثياب على حافة الجدول..فقال لنفسه لا بد أنها
تحمل معها إناء أروي بملئه ظمئي فناداها :يابنت الأخيار هل 
أجد معك طاسا أو كاسا أشرب به من هذا النهير..قالت المرأة:
أبشر يا وجه الخير ..أراك مرهقاً من طويل السير فمن أين
وإلى أين ..وما بك أصفر الوجه شاحب كأنك من تنين هارب..
قال :لقد رأيت ما لم يره أحد قط ..ونجوت من هلاك محقق
لا ريب..قالت وما كان ذلك ؟قال رأيت أناسا ليسوا كالناس..
لهم أرجل تشيب شعر الراس..قالت :وكيف هي ؟ قال:
أرجل لا توصف ..يعجز عن تسميتها اللسان ..وتسبب لمن
يراها الرعب والذهان ..قالت :أهي كهذه..؟
وكشفت له عن حافر كحافر الثور له وبر بعيد الغور ..
فجن جنون الفلاح وأسلم ساقيه للرياح وقد عجز عن كبت
نوبة من النواح والصياح.. وعندما وصل إلى بيته كان 
شعره قد شاب جميعه كشعر عجوز غادره ربيعه..
وزفرت جدتي ونظرت إلي وأنا مشدوه وذاهل ..وقد
ظننت أنني كنت مع ذلك المسكين الغافل ..وقلت في لهفة:
يا لها من نهفة ..ورغم زهدي في هذا النوع من الحكايا
إلا أنني وجدت الاستمرار في الاستماع أكثر جاذبية من
النوم في سرير كبير واسع مقفر يكتنفه الغموض والظلام
خصوصا بعد الخوف الذي تملكني والخيالات التي راحت
تداهمني فقلت يا جدتي لم لهؤلاء القوم حوافر؟ قالت :باستغراب
ألا تعلم ؟قلت : لا قالت : لأنهم من الجن ..فضحكت حتى ارتويت..
وقلت :وهل يمكن رؤية الجن ؟ قالت :وهي تشيح بوجهها بضيق:
هذه حكاية ياجدتي ..اسأل من اختلقها ..قلت :ومن فعل ؟ فنظرت
إلي بعتاب وقالت: هل ستستمع لباقي الحكايات أم لا ..؟فقلت في
حزم إذا كان فيها جن لا لا أريد..قالت وقد انفرجت أساريرها:
لا اطمئن هذه فقط فيها جن ..فقل بسم الله الرحمن الرحيم واقرأ
المعوذتين قبل أن تنام ولا بأس عليك..قلت محتجاً :واية الكرسي!
قالت :واية الكرسي..قلت : حسناَ الان يمكنك إكمال مسلسل الحكايا..
وزفرت جدتي من جديد وقالت :
ذات يوم يابني..تراهن ثلاثة من الشبان على أن من يجرؤ على الذهاب
الى المقبرة في منتصف ليلتهم المظلمة العاصفة والممطرة سيحصل على
لقب (المقدام) ..وسيسير دائما في الأمام ..وسيكون أول من يبدأ الطعام
ويفتتح الكلام..وقبل التحدي أحدهم..وقرر الفوز باللقب بينما رنا إليه
الاخران بعين الفخر والاعتزاز إذ أن منهم من سيثبت للعالم كله إنه شجاع
وباسل ..واتفقوا على أنه يتوجب عليه أن يضع حزامه على شاهدة قبر
من القبورفي وسط المقبرة..وانطلق الشاب الغر والرياح تصفع وجهه
والمطر يتسرب عبر ثيابه وهو منكمش على نفسه منطلق إلى غايته
وقلبه بخفق بعنف ورجلاه ترتعدان فرقا وهلعا..وراح يتلمس طريقه بين القبور
حتى أيقن أنه أصبح في وسطها...كانت الرياح تصفر وتدور عابثة
بشعره وثيابه وكان هو يحاول فك حزامه بيدين مرتجفتين حتى إذا
أفلح ألقى بحزامه على القبر وهم بالعودة ..ولكن هيهات..شيء ما راح يشده
من طرف ثوبه الذي أفلت وراح يخفق مع الرياح بقوة وعنف..وراح
الشاب يصرخ ويستغيث ويندفع بكل قوة للفرار مما يمسك به..
وأخيراً تمزق الثوب وأفلت الشاب وراح يركض صوب المنزل باكيا
مرتعداً وهويلتفت بذعر وهلع إلى الخلف ليرى إن كان ثمة ما يلحق
به..وعند الباب وقف ..مسح دموعه وحاول استعادة توازنه..
ومد يده إلى بقايا ثوبه يصلحها ..وأخيرا..دلف إلى البيت ووقف قبالة
رفيقيه وهم بالكلام ..ولكنه لم يستطع ..كان شعره قد شاب كله وكان
لسانه قد انعقد ..وبدت في وجوه الشباب علائم الخوف والرعب
وهم يرون حال رفيقهم..فهل تعلم يا حفيدي العزيز ما الذي كان
يمسك بثوب الشاب..قلت بتوجس: ضبع جائع ..قالت:بل فرع شجرة
مقطوعة علق بها الثوب ولولا خوف الغر وذعره لما كان في ذلك من
ضير..ما رأيك بهذه الحكاية ؟ قلت ممتازة يا جدتي ..ها أنت تحركين
عقلي وتعلمينني الشجاعة ..وليس الخوف من مخلوقات لم يرها أحد
أعرفه..قالت :حسنا يا بني ..هل تريد أن تسمع حكاية أرملة الشحاذ..
قلت:هل هي حقيقية؟قالت:يقو لون إنها حقيقية..قلت :حسنا أسمعها
وهكذا شرعت جدتي في حكاية أرملة صالح الشحاذ...
لم استطع التركيز على تفاصيل قصتها..كان النعاس قد غلبني تماما
وكنت أحاول جاهداً الجمع بين النوم والفهم والابتسام لجدتي التي
بدت متحمسة جداً لهذه القصة..ولم أفهم من قصتها إلا أن الأرملة
ولسبب ما أصرت على العودة إلى قريتها من القرية المجاورة..
وكانت تحمل طفلاً صغيراً في حضنها وتمسك بيد طفل اخر أكبر
منه قليلاً تجره خلفها وهو يتباطأ ويتكاسل..كأنما يريد أن يقول لها:
لم علي أن ألحق بك في رحلة التشرد هذه ..أريد أن ألتصق هنا
بهذه الأرض فلا أنهض أبداً..أريد أن أنام فلا أستيقظ..أريد أن 
أظفر ببعض الراحة..وفجأة ..ومن أعماق الظلام والبرد يخرج
ضبع غادر ويمسك بولدها من يده وتتعالى صرخات الصبي وتختلط
بصرخات الأم وبزمجرة الوحش الجائع..وبحركة عفوية مستميته
تطبق الأم على عنق الوحش وتفلت أولادها من يدها وتشرع في خنقه
وعضه ..ولكنها تنهارتماما ويتمزق شيء ما في صدرها عندما تبصر
وحشين اخرين يخرجان من الظلام ويجران ولديها إلى مصير لا
يعلمه إلا الله ..وعندما تشرق الشمس يتجمع الناس حول الأرملة
التي مازالت تطبق بيديها على عنق ضبع ميت..وهي تنظر بيأس وألم 
إلى الخواء..لقد فقدت ولديها..وصوابها..وسو اد شعرها...ولم تسمع
مطلقاً كلمات الناس وهم يقولون بخشوع:إنا لله وإنا إليه راجعون..
لقد توقف الزمن عندها عند غصة وعند صخرة قهر وعجز ...
كنت قد فهمت من القصة مقدار ألم هذه المرأة ولكنني شعرت
أن هناك خطأ ما ..نعم حصل ما حصل ..ولكن ما العمل ؟
أين ذهبت أرواح هذين الولدين ؟هل هما تعيسان حقاً من المصير
الذي لقياه ..وعند هذا الحد توقفت ..احتراما لحياة الانسان ..
ولنعمة الحياة ..لم أجرؤ على تعزية نفسي بأنهما الان بين
يدي الله وأن الله رحيم كريم عطوف..وجدت من واجبي أن
أشعر بالنقمة على كل من كان يستطيع منع هذه المجزرة من
أن تقع ولم يفعل ..وغفوت على مشهد جدتي وهي تضع غطاء
صوفيا على جسدي الصغير المنهك والنائم ..ولم يطل نومي..
إذ أنني شاهدت حلماً مرعباً ..ضبع شرير ينظر إلي من النافذه..
وفتحت عيناي ..استيقظت ورأيت في النافذة رأساً ضخمة تتحرك..
تهز رأسها وتحكه بقضبان النافذه..إنه ليس حلماً..ولم أجرؤ على تحريك
رأسي ..البؤبؤ فقط راح يبحث في مدى رؤيته عن الجدة..
ثم يعود ليتسمر على الرأس المرعبة التي تحاول حشر فمها
الطويل الفاغر بين القضبان..ثم اختفى الرأس فجأة وشي ما
راح يدفع الباب ..الملاصق تقريبا للنافذة..دقات قلبي عزفت
كل ألحان الهلع..أنفاسي احتبست في صدري..وصرخة هائلة
علقت في حلقي وراحت تحفر فيه وخزاتها ..ثم عاد الرأس
إلى النافذه وازداد إلحاحا في محاولته اقتحام النافذة..
وأخيراً انفلتت كل صرخاتي واهتز كياني بنشيج ودموع
كالسيل ولا أعلم لماذا رحت أشتم ..انطلقت كل براكين
الغضب والسخط المحتقنة في داخلي..ورحت أستغيث
بجدتي وما من مجيب..والرأس اللعين المتوحش لا يرحمني
ولا يتوقف عن دفع الباب مرة ومحاولة اقتحام النافذة حينا
اخر..وفجأة انفتح الباب وأطلت جدتي خائفة مرتعبة من 
صراخي..ولم أستطع الإجابة على تساؤلاتها بأية كلمة
مفهومة ولم أستطع التوقف عن الارتعاد والبكاء والشتائم..
كل مااستطعت قوله هو:أريد قضاء حاجة..وحملتني جدتي
إلى الخارج..إلى حيث العدو المفترس..المخيف .ولكن لا
بد من قضاء الحاجة..وقرب الباب تماما كان يقف الحمار
مربوطاً إلى شجرة التوت ..يلصق رأسه بالنافذة..ويهزه 
متبرما بقيده المتين..وللحظة خاطفة ..تساءلت لماذا لم
يأكل الوحش المرعب هذا الحمار ..؟ولم أجد إجابة شافية
إلا بعد سنوات ..عندما سألني أحد أصدقائي بخبث:
هل أنت متأكد من أن الرأس التي رأيتها في النافذة
ليست رأس الحمار ..؟قلت له محتجاً: وماذا عن دفع
الباب؟ قال : الحمار أيضاً ؟ وقلت لنفسي: سامحك الله
يا جدتي ..هل كان من الضروري أن تحكي لي قصة 
أرملة الشحاذ..أما اليوم فأنا أشعر بالرضا لأنني شاركت 
أطفالها المساكين لحظات الرعب التي عاشوها قبل أن
يودعوا هذه الدنيا البائسة ..

كتب لي صديقي يقول:
ما رأيك بهذه الحكاياحتى الان؟
فكتبت له أقول:
-أخي العزيز بصراحة حكايتك مع رأس الحمار أكثر جمالاَ
من الحكايا الأخرى..هذا أولاَ ...وثانياَ: كتبت لي أخت فاضلة
تقول :ان هذه الحكايا هي ذاتها الحكايا
التي قصتها عليها جدتها.. وطبعاَ هذا بعد كل التعديلات التي
أجريتها أنا على حكايا جدتك ياعزيزي..فما الفائدة من كتابة حكايا
يعرفها الناس ...لذلك أشكرك لتعاونك 
وأسأل الله الرحمة لجدتك..لك مني كل الحب والسلام..
ولكن صديقي العنيد كتب لي يقول: مهلا مهلا لا تنس أن عندي
جدة أخرى تسكن في المدينة وهي تملك كنزاَ حقيقياَ من القصص الواقعية
التي حدثت معها أو مع معارفها ..سأرسل لك واحدة تصرف بها كما تشاء
وإن لم تعجبك لن أصدع رأسك بالمزيد أعدك...
وانتظرت رسالة صديقي ..وجاءت الرسالة تقول:
جدتي الثانية امرأة مكافحة ..عملت في الخياطة بعد أن هاجرت هي
وزوجها من لواء الاسكندرون وسكنت في حي الميدان في دمشق..
كنا ذات يوم نجلس على ضوء المصباح الكهربائي الأصفر
الشاحب في غرفة لا أعلم حقاَ إن كانت مبنية بالطين المخلوط بالقش
أم بالحجر..ما أذكره هو أن سقف تلك الغرفة كان عاليا بصورة مرعبة
وكان مسقوفا بصف أنيق ونظيف من الاخشاب الاسطوانية الشكل التي تحكي
قصة أشجار من أعمار متقاربة ومن جنس واحد..وكان الطلاء الابيض
الذي يصبغ الجدران باهتا ومشققا وكان ثمة نافذةوحيدةمن الخشب
الانيق المدهون بالازرق المخضر تجاور باب الغرفة الخشبي أيضا..
كنا نستعد للسحور في رمضان المبارك ..وفي انتظار ابريق الشاي
أفلتت من شفاه جدتي حكاية فقالت ضاحكة:
اسمع يابني ..ولد في مثل سنك هذه..جاءني منذ عشر سنوات لأخيط
له قميصا مدرسيا(مريلة) وأخذت مقاسه وقلت له :" عد بعد أسبوع.".
وبعد أسبوع وبينما كنت عائدة من السوق وأنا أحمل أكياس الخضار
وأسير بتثاقل وبطء ..رأيت الولد يدخل في الزقاق الضيق الذي
ينتهي إلى باب منزلي ..ولم ينتبه إلى أنني خلفه..كان شارداَ
وبدا لي أنه يقبض على شيء ما بشدة ويخشى أن يفقده..فوقفت على
مقربة لأرى ماذا يصنع..طرق الباب بتردد..وصاح صوت حاد من
الداخل:"من.".فقال الولد:" أنا ..افتحوا.".وانتظر وانتظر ولم يفتح أحد..
فعاد الولد وطرق الباب بخجل..ومن جديد صاح الصوت :"من"
.فقال الولد:"أنا أنا جئت اخذ المريلة."..ولكن لم يفتح أحد هذه المرة أيضاَ..
فطرق الولد الباب بعصبية وإلحاح..وصاح الصوت من داخل البيت:"من"
فقال الولد بألم:"أنا ابن أم محمد ..الذي جاء من أسبوع لخياطة مريلة..جئت
اخذها " ولم يفتح أحد هذه المرة أيضاَ...وكنت أنا يا جدتي أقاوم رغبة شريرة
في الضحك وأنا أرى الولد يزداد قلقا وغضبا ..وفجاة راح يضرب الباب بكلتا
يديه وهو يضرب الأرض برجليه ويصرخ:" لماذا لا يفتح أحد هذا الباب اللعين
..جئت اخذ مريلتي ..لن يسمح لي الاستاذ بدخول الصف إن لم ألبسها..أرجوكم
افتحوا"ولم يتوقف الصوت الاتي من الداخل عن ترديد كلمة:"من" مع كل طرقة
وأخيرا التفت الولد إلى الخلف فتظاهرت بأنني أسير صوبه..وتنفس هو بعمق
وظهرت عليه إمارات الخجل..ثم سارع يقول:" أنا أطرق الباب منذ فترة..
يقولون من ولا يفتحون .." فقلت له:"تعال يابني" وفتحت الباب وطرقته وهو
مفتوح..فصاح الصوت الحاد:"من" ورفع الولد رأسه ليرى ببغائي العزيزة بو بو
في قفصها المعلق خلف الباب تهز رأسها بجذل.فقلت له :"هذه ببغائي علمتها 
كيف تقول هذه الكلمة عندما يطرق الباب وهي تنتظر حبة مكسرات بعد كل
نطق لهذه الكلمة فماذا لديك لتعطيها ؟" فتح الولد يده ومد لي قطعة نقود وقال:
"هذه أجرة خياطة المريلة" قلت له:"هذه هدية من بوبو لك لتغفر لها ما سببته
لك من ألم" فضحك الولد وبدت عليه علائم فرح غامر ..فلم يكن من السهل
أبدا على ولد صغير في ذلك الزمن الحصول على قطعة نقود مماثلة إلا في
الأعياد..وأحضرت المريلة للولد الذي ازداد ضغطا على ما في يده ولم ينظر
إلى المريلة التي التقطها من يدي وكأنها لم تعد تعنيه..وبدا شاردا هذه المرة
أيضا ولكن في عالم اخر..لقد أهدى إلي قصة جميلة مضحكة واستحق قطعة 
النقود..وبعد سنوات ماتت ببغائي العزيزة في ليلة عاصفة باردة.. وهذه القصة تذكرني
بها دائماَ..وها أنذا قد تركت الخياطة..انظر إلى ارتجاف يدي..إنه نهر الحياة
يسير ويسر ولا ينتبه إلى مسيرتة البطيئة السريعة إلا من يصغي جيدا ويتأمل
كثيرا..كدت يا بني أبلغ الحافة..حيث سيحملني الشلال إلى عالم اخر..
أنا مشتاقة إليه..مشتاقة كثيرا ياولدي..ودمعت عينا جدتي..وشعرت أنا برعب
غامر..ولكن ابريق الشاي انتفض في تلك اللحظة وأعلن لنا بداية السحور..

مع تحيات :عبدالحكيم ياسين
========================================


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

من كتابات 2012-قصة مسجوعة بعنوان: كبير الرأس يكتب

كبير الرأس يكتب..       تعارك قريبا الحمار.. حتّى سدّا الآفاق بالغبار.. وماتوقّفا إلّا بعد أن نال منهما التعب..  ورضيا بالصلح  رفعاً...