الاثنين، 8 يوليو 2019

من كتابات 2012-قصة مسجوعة بعنوان: كبير الرأس يكتب

كبير الرأس يكتب..

     

تعارك قريبا الحمار..
حتّى سدّا الآفاق بالغبار..
وماتوقّفا إلّا بعد أن نال منهما التعب.. 
ورضيا بالصلح  رفعاً للعتب.. 
بعد أن أدميا قلوب الجميع ..
وشوّها سمعة القطيع ..
وقد شهد صراع اليوم  مخلوقان صغيران.. 
على التقليد مفطوران ..
رأيامن عشهمافوق الشجرة العضّات والرفسات..
فراحا يقلّدانها بما عندهما من أدوات..
حتّى سقطا فوق التراب..
وزحف صوبهما نمل ذو أنياب..
والحمار مشغول بتطوير قدراته الأدبيّة..
مفكّر بكيفيّةالقيام بنقلة نوعيّة..
تخرجه من قفص الاتّباع ..
وتطلقه صوب فضاءات الإبداع ..
وكي يجد المكان الأنسب للكتابة ..
يمّم وجهه شطر الغابة..
ومشى مئات الأمتار..
مبتعداً عن المكان الذي حصل فيه الشجار. .
حتّى بلغ ظلال ياسمينة..
عليها وقفت ببغاء بدينة .. 
ملّت -من زمان- ترديد ماتسمع..
وشغلها الارتقاء  إلى رتبة أرفع ..
ووجدت في الحمار الحائر..
فرصةلتجربةدور متكلّم مبادر ..
فسألته بفضول:
"بم أنت ياطيّب مشغول..؟"
قال الحمار:
"أريد كتابة قصّةناقدة..
تجمع بين المتعة والفائدة..
لاأجرح بمعانيهامشاعر من يخالفني الرأي من الأحباب..
ولاأظلم من أكره فعله من الأصحاب..
وربّما تكونين ياقاهرة الفضاء..
قدسمعت بالأخوة الأعداء ..
الّذين فقدوا الرشاد..وركبهم العناد..
وقرّروا أنّ الغاية تبرّر الوسيلة..
حتّى لو فنيت دونها القبيلة..
وعندما يحيق الخطر بالجميع..
فالتحذير منه واجب على المستطيع..
ولكن حبّذا لو أشرت عليّ ياابنة الغابة ..
في أنسب سبيل للكتابة ..!"
قالت الببغاء:
"أحسنت ياحمار..
فماخاب من استشار..
إن هوأعمل فكره في الآراء..
وسلم من شراك الأهواء.."
قال الحمار:
"أوجزي إذا سمحت.."
قالت :
"سمعت جارنا الإنسان..
يقصّ على ولده قصّة بلسان الحيوان..
ففهمت منها أنّه يحضّه على الاستعداد للشتاء..
بدلاً من هدر الصيف في الغناء..
فلماذا لاتقلب الآية ...
وتروي بلسانه الرواية..؟
فيفطن قومك للقصد..
دون أن توقد في صدورهم نيران الحقد..
وهم إن لاموك وجانبوا حكمة الحكماء..
كانوا مستحقين لكلّ ازدراء..
ومن منهم لم يفعل..
تكون قد سلكت إلى نصحه السبيل الأفضل.."
قال الحمار:
"فماذا اقول لمن لم يفهم..؟"
قالت:
"فليذهب إلى جهنّم.."
قال:
"شكراً لك ياصاحبة المنقار..
وليت لي غير ذلك الخيار.."
ثمّ إنّه مال إلى القلم فخطّ به هذه القصّة:      
(واحد من البشر رفس نسيبه..
وعضّ قريبه..
الذي لم ينهق ببنت شفه..
ولم يقابل السفه بالسفه..
بل بادر إلى الغفران..
رغم امتلاكه للحوافر والأسنان..
غير أنّ المعتدي تمادى وبالسوءنهق ..
ثمّ بالغ وبوجه المتسامح بصق..
وكاد أن يفعل ماهو أعظم من تلك الأفعال..
لولا أنّ الأرض انشقت وابتلعته في الحال..
ثمّ نزلت في الشقّ صاعقة فأحرقته.. 
وتلتها زوبعةحملت رماده معها وذرته..
لماذا؟ 
لأنّ في السماء من يرى ويسمع..
وغضبه إذا نزل لايدفع..)
قال الحمار الكاتب للببغاء :
"القصّة انتهت ياابنة النبلاء..فهل عندك من نقد بنّاء؟"
قالت :
"أخشى ألّا يتّسع لنقدي صدرك الرحب..
فتغضب ويتلاشى مابيننا من قربّ.."
قال الحمار:
"مادام الكلام بيننا لايسمعه أحد ..فهو لي زينةوسند..
ومن يدري فقد اقتنع بما تذهبين إليه..
فأحذف من النصّ أو أزيد عليه..
ويكون لك أجر الإصلاح..
وفضل في صناعةالنجاح.."
قالت :
"مادمت قد أذنت لي في النقد..
ووعدتني بقبوله من غير وجد..
فأرى أن تستبدل الرفس بالنقر..
والعضّ بالخدش بالمخالب..
والنهيق بتقليد صوت النسيب..
والبصق لابأس به بل هو رهيب..
أمّا الحوافر والأسنان ..
فمع النقر والخدش ليس لها مكان..
وليس عندي ماأضيفه إلى ماذكرت لك ..
فالبناء المنطقيّ متين..والقيم التي يدعو إليها سامية..
والتشويق حاضر..والسبك ساحر..
رغم خلوّالنصّ من الإنشاء ..كنشرات الأنباء.."
قال الحمار:
"شكراً لك ياصاحبة المنقار..
لن أهمل ماأتحفتني به من أفكار ..
وسأعتمدها إن أعجبت صديقتي الذبابة..
التي قالت لي ذات يوم:
إنّ الناقد المبدع لاينظر فقط إلى الكتلة..
بل إليها وإلى مايحيط بها من فراغ..
فيبحث عمّا سكت عنه الكاتب ولم يقله..
ممّا يلامس الموضوع..
في  المسموح والممنوع..
فإن كان في المسموح وتجاوزه الكاتب فإيجاز أو غفلة..
وإن كان في الممنوع فخوف من المخلوق
أو خشية من الخالق..وشتّان بينهما.."
قالت الببغاء:
"فما الذي سكتّ عنه في قصّتك ولم تقله..؟"
قال الحمار:
"لم أقل إنّ العراك الذي جرى بين بطلي قصّتي
كان تحت شجرة دردار ..
وعلى غصن من أغصانها عشّ فيه أفراخ صغار..
راحت تقلّد ماترى.. فسقطت من العشّ  فوق الثرى .."
سارعت الببغاءبالطيران وهي تقول:
"أيّها البائس الآن أعلم 
لماذا لايتوقّف جارنا الإنسان 
عن وصف ولده بالحمار..كلمّاارتكب حماقة..!"

-----------------------

عبدالحكيم ياسين/سورية

الأربعاء، 26 ديسمبر 2018

نشرت هذه السلسلة في منتديات ورد للفنون وفي منتديات المحبرة
وفي منتديات منابر ثقافية..وفي منتديات عيون هالة..عام2007

حكايا جدتي

طلبت من صديق لي يعيش حاليا في الريف
أن يجمع لي حكايا جدته التي سمعت الكثير 
عنها و طمعت أيضا في أن
أحصل منه على ذكر لبعض ما جرى له هناك في الأرياف
من قصص وأحداث أعرف أنه يبرع في وصفها وانتقائها..
فكتب لي يقول:
كل من عرف جدتي أحبها..كانت تملك مخزوناً هائلاً
من الحكايات العامرة بالجمال والموعظة..كانت تحب
أن أقرأ لها القصص مهما كان نوعها وكانت تحب أن
تعلق على أحداث القصة وتمتدح الطيبين من شخوصها
وتضرع إلى الله بعيون دامعة أن يتولى أمر الأشرار..
أما أنا فقد كنت شديد التدقيق في اختيار القصص التي
أحضرها لها معي من المدينة كل صيف..وكنت أكتشف
كل يوم قصة جديدة حفظتها جدتي من مكان ما ..
كنت أركب سيارة متهالكة تئن كثيراً وهي تصعد طريقاً
جبلية ساحرة تكتنفها كل أنواع الأشجار الحرجية..
وتفوح روائح النباتات البرية العطرية مع كل هبة نسيم..
وعندما أصل إلى بيت جدتي أجد بابا خشبياً مصفحاً برقائق
معدنية مدهونة بلون أخضر محبب..وحالما أدخل الدار تقابلني
شجرة توت عملاقة ومصطبة من التراب الأبيض الناعم النظيف
ً..في كثير من الأحيان لم أكن أجد أحداً في البيت..ورغم
ذلك تكون الأبواب كلها مفتوحة وكأنما هي في انتظاري..وخلف
باب غرفة المعيشة كوة كبيرة في الجدار مظلمة دائماً تقبع
فيها جرة ماء ..كم كنت أحب ذلك الماء ..بارد دوماً..أشرب
منه فأرتوي وأتلذذ برؤية الجدران المطلية بالكلس الأبيض..
ثم أرنو ببصري إلى السقف الخشبي الذي اسود كثيراً من 
دخان الموقد المحفور في أرض الغرفة..لم أصادف هذا
الموقد مشتعلاً أبداً لأن كل زياراتي للقرية كانت في الصيف..
ولكنني كنت استمتع كثيراً بمنظر النار المشتعلة بين حجرين
كبيرين في الباحة الخارجية للدار..كانت الفئران تركض 
وهي تصرخ بين العوارض الخشبيةالسوداء في السقف..
ويتساقط التراب أحياناً فوق رأسي..فئران لها بطن أبيض
ناعم وظهررمادي ..فئران مختلفة غير مقرفة...
وحالما تحضر جدتي تقبلني عشرات القبلات وتبكي من 
الفرح وتسأل عن الجميع..ولا تجلس أبداً..طالما هناك
ضوء نهار لا تقعد..لديها دائما عمل يجب إنجازه..
إطعام الدجاجات ..إبعادها عن بعض الأشياء التي لا أذكر ماهي..
ربما بعض الخضراوات المزروعة..أو بعض الثمار
المفروشة في طبق من القش..ظلال الأشجار كانت مقعدي..
وما أكثرها ..كل ما حولي كان غارقاً في الظل..فعلى
اشجار البلوط صعدت عرائش العنب ورسمت مظلة
كثيفة من الأغصان والأوراق..وعلى الأجزاء السفلى من الجذوع
تسلقت نباتات القرع وحملت ثماراً تشبه جرار الماء ..
وانتشرت أشجار الرمان والتين والخوخ في كل فراغ تحت
أشجار البلوط والسندبان العملاقة..وبين الأغصان راحت
السناجب والعصافير تعزف سمفونية أحلامها وتعلن حدود
ممالكها المنسية الهشة ...وطوال النهار كنت اتأمل ذلك
الخلق البديع لخالق كريم رحيم أعطانا الأمان والسلام وأتساءل
لماذا أنا وحدي هنا يا رب ؟ ألا يوجد في هذه الأرض طفل
صغيرمثلي يحب تأمل هذا الجمال والحديث عنه..وحالما
يأتي المساء ..تدب حياة جديدة مختلفة تماما ..يعود عمي
وزوجته من الحقول والمساكب التي تحتاج إلى عمل دائب
لتعطي ثمارها..ويتدفق سيل كثيف هادر من الأبقار والأغنام
والماعز والحمير فوق الطريق الترابية عائدين إلى المنازل..
وأتساءل أنا أين كان كل ذلك الحشد..وتتعالى الضوضاء
في المنزل ساعة ريثما يأخذ كل حي مكانه ...البقرة في مكان
منخفض قرب السور الحجري المغطى بالحطب اليابس..
والأغنام والماعز في زاوية رطبة مظلمة تحت أجمةا لرمان ..
والحمار قرب النافذة مربوط إلى شجرة التوت ..ويهدأ كل
شيء ويختفي الجميع..أنا وجدتي فقط ..نجلس في الغرفة
التي يتراقص فيها ضوء السراج شحيحاً ضعيفاً..يثيرالخ يال
ويرسم على الجدران مئات الأشكال المرعبة..والفئر ان في
السقف تعزف ألحان شجاراتها المتواصلة..وتبد أ جدتي حكايتها
قائلة: 
اسمع ياولدي ..سأقص عليك قصة الفلاح الذي شاب وهو في
ريعان الشباب..ثم قصة شاب اخر اشتعل رأسه بالشيب حتى
غدا أبيضاً كالحليب بعد أن كان أسوداً كالفحم..ثم قصة أرملة
صالح الشحاذ التي ابيض رأسها كالثلج في ليلة باردة عاصفة..
وتزفر جدتي زفرة عميقة وتتلمس رأسها الأشيب ولا تبوح أبدا
بقصة شيبها هي..وأقترب أنا منها خائفاً وأحس قشعريرة تسري
في جسدي ورعباً يملأ صدري وأكاد أقول لها توقفي بالله عليك
لا أريد سماع القصص المرعبة ولكن جدتي تريد أن تزيح عن
كاهلها شيئاً ما ولن أحرمها الفرصة..وأتظاهر بأنني مقبل على
الحكايا وأنا زاهد فيها رحمة بجدتي التي يثقلها بوح ما.. تريد
أن يشاركها إياه طفل عاقل مثلي..لطالما عاملته بكل تقدير..
وتتابع جدتي الكلام قائلة:
في يوم من الأيام يا سيدنا الأفندي ..وفي ليلة مظلمة ليس فيها ضوء
قمر سقط المطر فجأة على رأس الفلاح العائد إلى قريته من القرية
المجاورة..وهبت ريح شرقية عاوية..فطاش صواب المسكين وراحت
عيونه تجوس الأنحاء بحثاً عن ملاذ فلم تبصر إلا الظلام والخواء
وبصيص نور ضعيف ينبعث من بعيد ..فركض الفلاح إليه مؤملا
ركنا دافئا وجافا يلوذ به من سيل الماء وسياط الريح..وما إن وصل
إلى مقربة منه حتى سمع صوت معازف صادحة وأغاني وضحكات
واضحة..وإذا بعجوز شمطاء أسنانها متباعدة صفراء وعيونها
ذابلة زرقاء تطل تحت نور مصباح شديد الضياء وتقول له:مرحبا
بك يا زائر المساء وياضيف الأسخياء..تفضل وعجل بالدخول إلى
المغارة لتتقي المطر وانهماره وتشاركنا الاحتفال بعرس ابنة صاحب
هذه الدارة..ودلف الفلاح إلى بهو فسيح تحلق فيه جمع حاشد حول
طاولة مستطيلة حفلت بكل لون من الطعام والشراب..ولفرط جوعه
وظمئه شرع يأكل ويشرب العصائر دون أن يسأل عن هوية القوم
الأكابر..ولقد كاد يشبع ويقنع لولا أن سقطت من يده الملعقة فوقعت
تحت رجليه على الأرض..و عندما أقعى ليلتقطها رأى ..ويا لهول
ما رأى ..رأى أرجل الحاضرين يكسوها شعر كثيف كشعر الماعز
وتنتهي كلها بحوافر كحوافر الدواب عافاك الله..ولم ينهض من تحت
الطاولة لفرط رعبه وخوفه بل راح يزحف وهو يرتعد إلى أن وصل
إلى الباب فخرج منه راكضاً لاهثاً لا يلوي على شيء ولا يقف لشيء..
إلى أن وصل مع أنوار الفجر الأولى إلى حدود قريته حيث يتدفق نهير
عذب رقراق الماء بين صخور زلقة ملساء ..فخفف من سرعته
ونظر إلى موضع خطوه وفرائصه ما تزال ترتعد وركبه لا تكاد
تقوى على حمله..وحلقه قد جف واحترق من فرط الإعياء والقلق..
وبينما هو يترنح باحثاً عن مكان يسهل منه نهل الماء رأى امرأة
تغسل كوما من الثياب على حافة الجدول..فقال لنفسه لا بد أنها
تحمل معها إناء أروي بملئه ظمئي فناداها :يابنت الأخيار هل 
أجد معك طاسا أو كاسا أشرب به من هذا النهير..قالت المرأة:
أبشر يا وجه الخير ..أراك مرهقاً من طويل السير فمن أين
وإلى أين ..وما بك أصفر الوجه شاحب كأنك من تنين هارب..
قال :لقد رأيت ما لم يره أحد قط ..ونجوت من هلاك محقق
لا ريب..قالت وما كان ذلك ؟قال رأيت أناسا ليسوا كالناس..
لهم أرجل تشيب شعر الراس..قالت :وكيف هي ؟ قال:
أرجل لا توصف ..يعجز عن تسميتها اللسان ..وتسبب لمن
يراها الرعب والذهان ..قالت :أهي كهذه..؟
وكشفت له عن حافر كحافر الثور له وبر بعيد الغور ..
فجن جنون الفلاح وأسلم ساقيه للرياح وقد عجز عن كبت
نوبة من النواح والصياح.. وعندما وصل إلى بيته كان 
شعره قد شاب جميعه كشعر عجوز غادره ربيعه..
وزفرت جدتي ونظرت إلي وأنا مشدوه وذاهل ..وقد
ظننت أنني كنت مع ذلك المسكين الغافل ..وقلت في لهفة:
يا لها من نهفة ..ورغم زهدي في هذا النوع من الحكايا
إلا أنني وجدت الاستمرار في الاستماع أكثر جاذبية من
النوم في سرير كبير واسع مقفر يكتنفه الغموض والظلام
خصوصا بعد الخوف الذي تملكني والخيالات التي راحت
تداهمني فقلت يا جدتي لم لهؤلاء القوم حوافر؟ قالت :باستغراب
ألا تعلم ؟قلت : لا قالت : لأنهم من الجن ..فضحكت حتى ارتويت..
وقلت :وهل يمكن رؤية الجن ؟ قالت :وهي تشيح بوجهها بضيق:
هذه حكاية ياجدتي ..اسأل من اختلقها ..قلت :ومن فعل ؟ فنظرت
إلي بعتاب وقالت: هل ستستمع لباقي الحكايات أم لا ..؟فقلت في
حزم إذا كان فيها جن لا لا أريد..قالت وقد انفرجت أساريرها:
لا اطمئن هذه فقط فيها جن ..فقل بسم الله الرحمن الرحيم واقرأ
المعوذتين قبل أن تنام ولا بأس عليك..قلت محتجاً :واية الكرسي!
قالت :واية الكرسي..قلت : حسناَ الان يمكنك إكمال مسلسل الحكايا..
وزفرت جدتي من جديد وقالت :
ذات يوم يابني..تراهن ثلاثة من الشبان على أن من يجرؤ على الذهاب
الى المقبرة في منتصف ليلتهم المظلمة العاصفة والممطرة سيحصل على
لقب (المقدام) ..وسيسير دائما في الأمام ..وسيكون أول من يبدأ الطعام
ويفتتح الكلام..وقبل التحدي أحدهم..وقرر الفوز باللقب بينما رنا إليه
الاخران بعين الفخر والاعتزاز إذ أن منهم من سيثبت للعالم كله إنه شجاع
وباسل ..واتفقوا على أنه يتوجب عليه أن يضع حزامه على شاهدة قبر
من القبورفي وسط المقبرة..وانطلق الشاب الغر والرياح تصفع وجهه
والمطر يتسرب عبر ثيابه وهو منكمش على نفسه منطلق إلى غايته
وقلبه بخفق بعنف ورجلاه ترتعدان فرقا وهلعا..وراح يتلمس طريقه بين القبور
حتى أيقن أنه أصبح في وسطها...كانت الرياح تصفر وتدور عابثة
بشعره وثيابه وكان هو يحاول فك حزامه بيدين مرتجفتين حتى إذا
أفلح ألقى بحزامه على القبر وهم بالعودة ..ولكن هيهات..شيء ما راح يشده
من طرف ثوبه الذي أفلت وراح يخفق مع الرياح بقوة وعنف..وراح
الشاب يصرخ ويستغيث ويندفع بكل قوة للفرار مما يمسك به..
وأخيراً تمزق الثوب وأفلت الشاب وراح يركض صوب المنزل باكيا
مرتعداً وهويلتفت بذعر وهلع إلى الخلف ليرى إن كان ثمة ما يلحق
به..وعند الباب وقف ..مسح دموعه وحاول استعادة توازنه..
ومد يده إلى بقايا ثوبه يصلحها ..وأخيرا..دلف إلى البيت ووقف قبالة
رفيقيه وهم بالكلام ..ولكنه لم يستطع ..كان شعره قد شاب كله وكان
لسانه قد انعقد ..وبدت في وجوه الشباب علائم الخوف والرعب
وهم يرون حال رفيقهم..فهل تعلم يا حفيدي العزيز ما الذي كان
يمسك بثوب الشاب..قلت بتوجس: ضبع جائع ..قالت:بل فرع شجرة
مقطوعة علق بها الثوب ولولا خوف الغر وذعره لما كان في ذلك من
ضير..ما رأيك بهذه الحكاية ؟ قلت ممتازة يا جدتي ..ها أنت تحركين
عقلي وتعلمينني الشجاعة ..وليس الخوف من مخلوقات لم يرها أحد
أعرفه..قالت :حسنا يا بني ..هل تريد أن تسمع حكاية أرملة الشحاذ..
قلت:هل هي حقيقية؟قالت:يقو لون إنها حقيقية..قلت :حسنا أسمعها
وهكذا شرعت جدتي في حكاية أرملة صالح الشحاذ...
لم استطع التركيز على تفاصيل قصتها..كان النعاس قد غلبني تماما
وكنت أحاول جاهداً الجمع بين النوم والفهم والابتسام لجدتي التي
بدت متحمسة جداً لهذه القصة..ولم أفهم من قصتها إلا أن الأرملة
ولسبب ما أصرت على العودة إلى قريتها من القرية المجاورة..
وكانت تحمل طفلاً صغيراً في حضنها وتمسك بيد طفل اخر أكبر
منه قليلاً تجره خلفها وهو يتباطأ ويتكاسل..كأنما يريد أن يقول لها:
لم علي أن ألحق بك في رحلة التشرد هذه ..أريد أن ألتصق هنا
بهذه الأرض فلا أنهض أبداً..أريد أن أنام فلا أستيقظ..أريد أن 
أظفر ببعض الراحة..وفجأة ..ومن أعماق الظلام والبرد يخرج
ضبع غادر ويمسك بولدها من يده وتتعالى صرخات الصبي وتختلط
بصرخات الأم وبزمجرة الوحش الجائع..وبحركة عفوية مستميته
تطبق الأم على عنق الوحش وتفلت أولادها من يدها وتشرع في خنقه
وعضه ..ولكنها تنهارتماما ويتمزق شيء ما في صدرها عندما تبصر
وحشين اخرين يخرجان من الظلام ويجران ولديها إلى مصير لا
يعلمه إلا الله ..وعندما تشرق الشمس يتجمع الناس حول الأرملة
التي مازالت تطبق بيديها على عنق ضبع ميت..وهي تنظر بيأس وألم 
إلى الخواء..لقد فقدت ولديها..وصوابها..وسو اد شعرها...ولم تسمع
مطلقاً كلمات الناس وهم يقولون بخشوع:إنا لله وإنا إليه راجعون..
لقد توقف الزمن عندها عند غصة وعند صخرة قهر وعجز ...
كنت قد فهمت من القصة مقدار ألم هذه المرأة ولكنني شعرت
أن هناك خطأ ما ..نعم حصل ما حصل ..ولكن ما العمل ؟
أين ذهبت أرواح هذين الولدين ؟هل هما تعيسان حقاً من المصير
الذي لقياه ..وعند هذا الحد توقفت ..احتراما لحياة الانسان ..
ولنعمة الحياة ..لم أجرؤ على تعزية نفسي بأنهما الان بين
يدي الله وأن الله رحيم كريم عطوف..وجدت من واجبي أن
أشعر بالنقمة على كل من كان يستطيع منع هذه المجزرة من
أن تقع ولم يفعل ..وغفوت على مشهد جدتي وهي تضع غطاء
صوفيا على جسدي الصغير المنهك والنائم ..ولم يطل نومي..
إذ أنني شاهدت حلماً مرعباً ..ضبع شرير ينظر إلي من النافذه..
وفتحت عيناي ..استيقظت ورأيت في النافذة رأساً ضخمة تتحرك..
تهز رأسها وتحكه بقضبان النافذه..إنه ليس حلماً..ولم أجرؤ على تحريك
رأسي ..البؤبؤ فقط راح يبحث في مدى رؤيته عن الجدة..
ثم يعود ليتسمر على الرأس المرعبة التي تحاول حشر فمها
الطويل الفاغر بين القضبان..ثم اختفى الرأس فجأة وشي ما
راح يدفع الباب ..الملاصق تقريبا للنافذة..دقات قلبي عزفت
كل ألحان الهلع..أنفاسي احتبست في صدري..وصرخة هائلة
علقت في حلقي وراحت تحفر فيه وخزاتها ..ثم عاد الرأس
إلى النافذه وازداد إلحاحا في محاولته اقتحام النافذة..
وأخيراً انفلتت كل صرخاتي واهتز كياني بنشيج ودموع
كالسيل ولا أعلم لماذا رحت أشتم ..انطلقت كل براكين
الغضب والسخط المحتقنة في داخلي..ورحت أستغيث
بجدتي وما من مجيب..والرأس اللعين المتوحش لا يرحمني
ولا يتوقف عن دفع الباب مرة ومحاولة اقتحام النافذة حينا
اخر..وفجأة انفتح الباب وأطلت جدتي خائفة مرتعبة من 
صراخي..ولم أستطع الإجابة على تساؤلاتها بأية كلمة
مفهومة ولم أستطع التوقف عن الارتعاد والبكاء والشتائم..
كل مااستطعت قوله هو:أريد قضاء حاجة..وحملتني جدتي
إلى الخارج..إلى حيث العدو المفترس..المخيف .ولكن لا
بد من قضاء الحاجة..وقرب الباب تماما كان يقف الحمار
مربوطاً إلى شجرة التوت ..يلصق رأسه بالنافذة..ويهزه 
متبرما بقيده المتين..وللحظة خاطفة ..تساءلت لماذا لم
يأكل الوحش المرعب هذا الحمار ..؟ولم أجد إجابة شافية
إلا بعد سنوات ..عندما سألني أحد أصدقائي بخبث:
هل أنت متأكد من أن الرأس التي رأيتها في النافذة
ليست رأس الحمار ..؟قلت له محتجاً: وماذا عن دفع
الباب؟ قال : الحمار أيضاً ؟ وقلت لنفسي: سامحك الله
يا جدتي ..هل كان من الضروري أن تحكي لي قصة 
أرملة الشحاذ..أما اليوم فأنا أشعر بالرضا لأنني شاركت 
أطفالها المساكين لحظات الرعب التي عاشوها قبل أن
يودعوا هذه الدنيا البائسة ..

كتب لي صديقي يقول:
ما رأيك بهذه الحكاياحتى الان؟
فكتبت له أقول:
-أخي العزيز بصراحة حكايتك مع رأس الحمار أكثر جمالاَ
من الحكايا الأخرى..هذا أولاَ ...وثانياَ: كتبت لي أخت فاضلة
تقول :ان هذه الحكايا هي ذاتها الحكايا
التي قصتها عليها جدتها.. وطبعاَ هذا بعد كل التعديلات التي
أجريتها أنا على حكايا جدتك ياعزيزي..فما الفائدة من كتابة حكايا
يعرفها الناس ...لذلك أشكرك لتعاونك 
وأسأل الله الرحمة لجدتك..لك مني كل الحب والسلام..
ولكن صديقي العنيد كتب لي يقول: مهلا مهلا لا تنس أن عندي
جدة أخرى تسكن في المدينة وهي تملك كنزاَ حقيقياَ من القصص الواقعية
التي حدثت معها أو مع معارفها ..سأرسل لك واحدة تصرف بها كما تشاء
وإن لم تعجبك لن أصدع رأسك بالمزيد أعدك...
وانتظرت رسالة صديقي ..وجاءت الرسالة تقول:
جدتي الثانية امرأة مكافحة ..عملت في الخياطة بعد أن هاجرت هي
وزوجها من لواء الاسكندرون وسكنت في حي الميدان في دمشق..
كنا ذات يوم نجلس على ضوء المصباح الكهربائي الأصفر
الشاحب في غرفة لا أعلم حقاَ إن كانت مبنية بالطين المخلوط بالقش
أم بالحجر..ما أذكره هو أن سقف تلك الغرفة كان عاليا بصورة مرعبة
وكان مسقوفا بصف أنيق ونظيف من الاخشاب الاسطوانية الشكل التي تحكي
قصة أشجار من أعمار متقاربة ومن جنس واحد..وكان الطلاء الابيض
الذي يصبغ الجدران باهتا ومشققا وكان ثمة نافذةوحيدةمن الخشب
الانيق المدهون بالازرق المخضر تجاور باب الغرفة الخشبي أيضا..
كنا نستعد للسحور في رمضان المبارك ..وفي انتظار ابريق الشاي
أفلتت من شفاه جدتي حكاية فقالت ضاحكة:
اسمع يابني ..ولد في مثل سنك هذه..جاءني منذ عشر سنوات لأخيط
له قميصا مدرسيا(مريلة) وأخذت مقاسه وقلت له :" عد بعد أسبوع.".
وبعد أسبوع وبينما كنت عائدة من السوق وأنا أحمل أكياس الخضار
وأسير بتثاقل وبطء ..رأيت الولد يدخل في الزقاق الضيق الذي
ينتهي إلى باب منزلي ..ولم ينتبه إلى أنني خلفه..كان شارداَ
وبدا لي أنه يقبض على شيء ما بشدة ويخشى أن يفقده..فوقفت على
مقربة لأرى ماذا يصنع..طرق الباب بتردد..وصاح صوت حاد من
الداخل:"من.".فقال الولد:" أنا ..افتحوا.".وانتظر وانتظر ولم يفتح أحد..
فعاد الولد وطرق الباب بخجل..ومن جديد صاح الصوت :"من"
.فقال الولد:"أنا أنا جئت اخذ المريلة."..ولكن لم يفتح أحد هذه المرة أيضاَ..
فطرق الولد الباب بعصبية وإلحاح..وصاح الصوت من داخل البيت:"من"
فقال الولد بألم:"أنا ابن أم محمد ..الذي جاء من أسبوع لخياطة مريلة..جئت
اخذها " ولم يفتح أحد هذه المرة أيضاَ...وكنت أنا يا جدتي أقاوم رغبة شريرة
في الضحك وأنا أرى الولد يزداد قلقا وغضبا ..وفجاة راح يضرب الباب بكلتا
يديه وهو يضرب الأرض برجليه ويصرخ:" لماذا لا يفتح أحد هذا الباب اللعين
..جئت اخذ مريلتي ..لن يسمح لي الاستاذ بدخول الصف إن لم ألبسها..أرجوكم
افتحوا"ولم يتوقف الصوت الاتي من الداخل عن ترديد كلمة:"من" مع كل طرقة
وأخيرا التفت الولد إلى الخلف فتظاهرت بأنني أسير صوبه..وتنفس هو بعمق
وظهرت عليه إمارات الخجل..ثم سارع يقول:" أنا أطرق الباب منذ فترة..
يقولون من ولا يفتحون .." فقلت له:"تعال يابني" وفتحت الباب وطرقته وهو
مفتوح..فصاح الصوت الحاد:"من" ورفع الولد رأسه ليرى ببغائي العزيزة بو بو
في قفصها المعلق خلف الباب تهز رأسها بجذل.فقلت له :"هذه ببغائي علمتها 
كيف تقول هذه الكلمة عندما يطرق الباب وهي تنتظر حبة مكسرات بعد كل
نطق لهذه الكلمة فماذا لديك لتعطيها ؟" فتح الولد يده ومد لي قطعة نقود وقال:
"هذه أجرة خياطة المريلة" قلت له:"هذه هدية من بوبو لك لتغفر لها ما سببته
لك من ألم" فضحك الولد وبدت عليه علائم فرح غامر ..فلم يكن من السهل
أبدا على ولد صغير في ذلك الزمن الحصول على قطعة نقود مماثلة إلا في
الأعياد..وأحضرت المريلة للولد الذي ازداد ضغطا على ما في يده ولم ينظر
إلى المريلة التي التقطها من يدي وكأنها لم تعد تعنيه..وبدا شاردا هذه المرة
أيضا ولكن في عالم اخر..لقد أهدى إلي قصة جميلة مضحكة واستحق قطعة 
النقود..وبعد سنوات ماتت ببغائي العزيزة في ليلة عاصفة باردة.. وهذه القصة تذكرني
بها دائماَ..وها أنذا قد تركت الخياطة..انظر إلى ارتجاف يدي..إنه نهر الحياة
يسير ويسر ولا ينتبه إلى مسيرتة البطيئة السريعة إلا من يصغي جيدا ويتأمل
كثيرا..كدت يا بني أبلغ الحافة..حيث سيحملني الشلال إلى عالم اخر..
أنا مشتاقة إليه..مشتاقة كثيرا ياولدي..ودمعت عينا جدتي..وشعرت أنا برعب
غامر..ولكن ابريق الشاي انتفض في تلك اللحظة وأعلن لنا بداية السحور..

مع تحيات :عبدالحكيم ياسين
========================================


الجمعة، 27 أبريل 2018


من كتابات2009


الصياد الخائب


حمل بندقيّته الصدئة واعتمر قبعته العالية العريضة

المصنوعة من لحاء الخيزران وخرج لاصطياد الطائر
المغرّد الجميل الذي لمحه ذات يوم فوق شجرة السرو ..
كان الطائر يغفو فوق الأغصان المتكاثفة فلم يسمع صوت
العيدان البايسة تتكسّر تحت قدميّ الصيّاد ..
الأنسام الحانية جزعت أشدّ الجزع ..فهبّت بقوّة
تحمل معها رائحة الخطر المحدق بالمغرّد الجميل
وتثير الغبار في وجه المتسلّل..ولكن ..
الطائر متعب وإغفاءته عميقة والصيّاد عنيد..
لذلك لجأت الأنسام لحيلة أخرى..
فقد راحت تهبّ بنعومة ولطف حاملة
معها شذى الزهور ودفء شمس الضحى ..ماسحة
بأناملها الساحرة على وجه وعينيّ الصيّاد..الأمر الذي
جعله يجلس.. ثمّ يستند إلى جذع الشجرة.. 
ثمّ يتوسّد يديه ويغفو ..ثمّ يشرع بشخير بدا عالياً
مزعجاً وموقظاً للعيون الغافية ..
ولكنّ الطائر كان قد صحا على قرصة نملة مشاغبة..
وسمع الشخير فظنّه صوت الهرّ العجوز الذي لايتوقّف عن مطاردته..
ورأى قبعة الصيّاد الواسعة فهبط وحطّ فوقها
بخفّة وغرّد متحديّاً الهرّ الذي ظنّه مختبئاً في مكان ما..
وتحرّك الصيّاد وسعل ونظر حوله..وهمس لنفسه:
أخيراً هاهو الطائر قد حطّ على الشجرة ..
وقام يدور حول الشجرة وهو يتفرّس في كلّ زاوية
وفوق كلّ غصن ..والطائر يرتجف وهو
لايجرؤ على الطيران خوفاً من طلقة غادرة ..
ودقّات قلبه تتسارع وعيناه تبحثان عن فضاء آمن..
وفجأة..ظهر من طرف الحقل الطفل أحمد الذي يحبّ
الطيور والأزهار ويكره الأشواك والديدان ..
ركض أحمد صوب الصياد وصاح:
ياعمّ سرحان..ياعمّ سرحان في دارنا جرذ كبير
يتسلّق شجرة ويلتصق بأغصانها..لقد شاهده
أخي أكثر من مرّة فوق شجرة الرمّان يجوّف ثمارها.. 
وشاهدته أنا يلتهم الكرز قبل نضوجه 
وخالي يقول: إنّ الجرذ يقضم من حبّات الخوخ
قضمات ثمّ يتركها تتعفّن وتهتريء..تعال خوّفه ياعمّ
لكي يهرب ويتركنا في سلام ..
قال الصيّاد:اذهب عنّي فأنا مشغول ..اذهب بسرعة
قبل أن تخيف الطائر فيهرب ولا أتمكّن من صيده..
قال أحمد:ولكنّ الطيور صديقة لنا ..إنّها تخلّصنا
من مئات الديدان واليرقات التي تنخر الأشجار..
قال الصيّاد بغلظة:يوجد الكثير منها ياولد..وهذا
الطائر جميل جدّاً..وسأزيّن بريشه الملّون قبّعتي..
نظر أحمد إلى القبعة فرأى الطائر يطلّ برأسه من
فوقها وهو يرتعد..فضحك الصبي وقال:
لابأس سنجد طريقة ما لتأديب الجرذ المشاغب..
لاتتعب نفسك ياعمّ ..ولكن ..رأيت منذ قليل
حارس الغابة ومعه رجل شرطة وهم يبحثون 
عمّن أصاب بقرة الأرملة بطلق طائش..
قال الصيّاد:غريب ..لقد قالت لي إنّها قد باعتها
البارحة ..هل أنت صادق ياولد؟
شعر أحمد بالخجل لأنّه كذب وندم لأنّه فعل..
فقال معتذراً:
آسف ياعمّ..أنا أمازحك..
وهمس الصيّاد بلؤم:المزاح له أصول ..اذهب ..
انصرف من هنا يبدو أنّك تحاول إلهائي فقط 
لكي لا أصطاد حبيب قلبك الطائر المغرّد ..
لقد سمعت صوته منذ قليل ولابدّ أنّه ملتصق
بأحد أغصان هذه الشجرة..قال أحمد بيأس:
أنت ذكي ياعمّ ولاشكّ أنّك ستكتشف ذات يوم أنّنا
عندما ننشغل بمطاردة الطيور النافعة فإنّ الجرذان
الضارّة تسرح وتمرح في بساتيننا..وعندما غاب
الطفل خلف حدود الحقل كان الصيّاد مستمرّاً في
الدوران حول الشجرة باحثاً عن الطائر بينما انتبه
الطائر إلى أنّه فوق قبّعة الصيّاد في أمان أكبر من
أيّ مكان آخر..فأغفى من جديد ..أمّا الشمس فكانت
تحاول أن تكتم ضحكتها وتخفي أسنانها البيضاء الجميلة..
شاعرة بالرضى لأنّها السبب في جعل هذا الصيّاد
يلبس هذه القبعة الرائعة..
----------------------
مع تحيات عبدالحكيم ياسين

الجمعة، 16 مارس 2018

ضربتُ في طفولتي
أخي لأجل ِ لعبةِ..
صفعْتُه براحتي
ولم تصبْه قبضتي..
وقد بكى وسبّني
فزادَ ذاكَ ثورتي..
وكدْتُ أن أسبّه
لولا ظهورُ جدّتي..
قالت لنا ووجهها
يشعّ بالمحبّةِ..
أباكما ربّاكما
على عهود ألفةِ..
ومالَ مهما ملتُما
عليكما بالرحمةِ..
وكم دعا لربّه
لتنعما بالصحّة..
فهل تجازيانه؟
بالسبّ والشتيمةِ..
وهل تكافئانهِ
بمثل هذي الخيبةِ..
تصالحا وسامحا
وسارعا بالتوبةِ..
وبعدما توقفتْ
سالت سريعاً دمعتي..
وقلت: عذراً يا أخي
اغفرْ عظيمَ زلّتي..
وفاضَ أيضاً دمعه
ثمّ انبرى بضحكةِ..
وشاهدتْ عناقنا
طيورُه وقطّتي..
فلم تعدْ خائفةً
واستسلمت لغفوةِ..

شعر:عبدالحكيم ياسين

السبت، 9 ديسمبر 2017

فن المقامة عند عبدالحكيم ياسين من كتابات2007-2009

الثور واللبوة

كبرت اللبوة الآن ..وصار لها مخالب وأسنان..
وجسمها الذي برزت فيه عضلات..اعتمد دائماً على صيد الأخوات..
ولطالما شبع من غير تعب..ولم يستمع في ذلك لعتب..
حتّى جاء اليوم الذي وجدت فيه نفسها وحيدة..
وأدركت عواقب طباعها العنيدة..
فوقت التعلّم قد فات..والفرائس لاتنال بالأمنيات..
والمهارة..والجسارة.. ماينقصها اليوم..وعليها
وحدها يقع اللوم..ولكن مانفع الندم والحسرات..
في مواجهة جوع ذي عضّات ..
إلّاأنّ رحمة الله واسعة..تنزل على النفوس الضائعة..
لعلها تتذكّر فضله فتشكره على ماأنعم..
أو تكون عبرة لغيرها فيتعلّم..
وذلك أنّ اللبوة التي تضرب خبط عشواء..
وجدت نفسها في مواجهة ثور عجوز يشتهي الفناء..
فقد نخرت جسده الأسقام..وأصبحت حياته سلسلة آلام..
ولمّا رآها تزمجر وتكشّر ..ابتسم ابتسامة مستبشر..
وأسلم لأنيابها جلده القاسي مغمضاً عينيه..
وأسنانها تحاول النفاذ إليه..ولكنّها عجزت عن اختراقه..
واضطرها التعب لفراقه..
فراحت تدفع جسده الهائل ليسقط فوق الأحطاب..
البارزة فوق الأرض كالحراب.. 
ولم تستطع..
فهمست تقول للثور وهو يستمع:
لماذا لاتدافع عن نفسك أيّها البائس..كغيرك من الفرائس..
فقال يا مليكة الغابات :
لقد سبق أن نهشتني السباع عشرات المرّات..
وتذوّقت ألم الجراح ..وأعرف الجدّ من المزاح..
وماأراك جادّة في قتلي..أم أنّك ضعيفة مثلي؟..
ولست بحاجة للدفاع عن نفس أتمنّى لها الهلاك..
وأظنّك ذلك المنقذ الملاك..
الذي سينهي آلامي..ويحقّق أحلامي..
إلّا إذا كنت أنت أيضاً محتاجة للإنقاذ..وباحثة عن ملاذ..
فإذا كنت تريدين هلاكي كما أريده فمري بما شئت تطاعي..
وأسرعي في إخماد أوجاعي..وانتزاع روحي من بين أضلاعي..
فانشرح صدر اللبوة المتعبة ممّا قال الثور..
وزال قلقها على الفور..
وقالت: أنا متعبة من جولة صيد في الحرش..
صرعت خلالها أربعة من حمر الوحش..
وتركتها لملك الغابة السابعة..وحرمت نفسي الجائعة..
ولو لم تثبّط بيأسك من نفسك عزيمتي..لكنت أريتك قوّة شكيمتي..
وعلى كلّ حال..وما دمت  لاتعتزم القتال..فاسقط من فضلك
على الأرض بعنف..ريثما استعيد قواي وأتخلّص من الضعف..
وظنّها الثور صادقة فأهوى بجسده الثقيل ..
على خشبة بارزة كإزميل.. 
فانكسرت وانغرزت كنصل قاتل  ..في جسد اللبوة الغافل..
فزمجرت وكزّت على أسنانها..وهوت فوقه ببنيانها..
متظاهرة بالسلامة ..وقائلة في ملامة:
أيّها الجثّة العفنة..لقد زكمت أنفي برائحتك النتنة..
قال:آسف أشدّ الأسف على عجزي..ومستعدّ للتعويض المجزي..
قالت:أحسّ بالظمأ والحرّ ياجاحد..وأحتاج لعقة من دمك البارد..
ولاأعرف حقّاً إن كان فيك دمّ..وأخشى أن تكون قد تجرّعت السمّ..
فضرب الثور رأسه بالجذع المقطوع..ولعق جراعه التي تفجّرت كينبوع..
ليبرهن لها عن نقاء دمه المهدور..فراحت تلعقه في حبور..
وقد أملت في أن ينزف فيموت..فتحصل بذلك على ماتنتظر من القوت..
وفجأة ظهر ضبع جائع.. وضحك بفجور..وكأنّه كشف المستور..
فقالت تواسي نفسها:
أظنّها ضحكته المعتادة..التي لاتعرف الزيادة..وماأظنّه يقصد الاستهزاء..
من ملكة تتناول طعام الغداء..
فقال الثور بعتب:لاأظنّه يملك للهزء أيّ سبب..فهاأنت يامولاتي تجثمين
فوق صدري..ودمي من عروقي بين شدقيك يجري..
وعلى كلّ حال :يأكلني سبع ..ولايأكلني ضبع..
فتظاهري يامليكتي المرهقة من الصيد طوال النهار..
بسحبي من رقبتي صوب الديار..وسأعينك على ذلك مااستطعت أن أعين..
لعلّ ذلك يخيف الضبع اللعين..فينصرف قبل أن يستبدّ بك الغضب..
وماكنت تتركينه يقترب لولا التعب..وشرعت اللبوة تتظاهر بسحب الثور..
وهو يجرّ نفسه ويخور بأشدّ الخور..إنجازاً لمسرحيّةّ الفريسة والصيّاد..
التي لم تكن بحاجة لإعداد..فعناصر النجاح متوفّرة ..
وفرص التحرّي لدى الضبع متعذّرة..ولكنّ اللبوة الخرقاء تعثّرت
وصدمت عينها بقرن الثور الحادّة كخنجر..فانتفضت متألّمةوراحت تزأر..
واستغرب الضبع غضبتها الهائلة..وظنّه مقدّمة لوثبة قاتلة..
وأذهلته مقدرتها على الجرّ..فقرّر البعد عن الشرّ ..
والتغنّي بالسلامة..بينما بقيت اللبوة القمّامة..
تحتال على الثور ليعينها على نفسه..
وبقي هو في مزيد من يأسه..
يساند للفوز بالممات..
من لم يتعلّم فنّون الحياة.
--------------------------------
مع تحيّات:عبدالحكيم ياسين
----------------------------------------------------------------------



شعر مجنّح:

أنا ومقصود صديقان،ورفيقان لايفترقان، 
يجمعنا تشابه في الواجبات،وتوحّدنا جملة اهتمامات ،
منها :كتابة الشعر منذ الطفولة؛
والميل فيه إلى الوضوح والسهولة ؛ 
ولنا في أنواعه كلّها محاولات ،أعجبت متذوّقيه والمتذوّقات ...
ولم نكن رغم ذلك معروفين ولامشهورين،
إلّا عند  زملائنا من الموظّفين ، 
وكان هؤلاء يستمتعون بما نكتب منه،
ويستشيروننا في كلّ شيء عنه، 
وذات يوم جاءنا موظّف جديد ، من مكان بعيد  ،
وراح ينشد أشعاره المنثورة ، بطريقة فجّة مغرورة ،
وكانت ضحلة المعاني ، ركيكة المباني ، 
لاابتكار فيها ولااتّباع،ولاموسيقا تطرب الأسماع،
بل ترنّح واضطراب،وهذيان يصدّع الألباب ،
 وكنّا نتشاغل عنه، مرّة بكأس الشاي ومايحتاجه من سكّر ،
 ومرّة بفتح وإغلاق كتاب أو دفتر،
 ولا أحد منّا يستمع إليه ،إلّا من أمسكه بيديه ،أو مال عليه،
 وطال به المقام ما طال ،وهو على هذه الحال،
واحتملنا منه الهراء، ولم يحتمل منّا الإغضاءوالحياء؛ 
بل راح يلومنا على إهمال ما ينثره من درر،
وامتناعنا عن تقريظ ما يلتقطه من صور،
حتّى برمنا به ونفد الصبر، وقرّرنا التشاور في الأمر، 
وقال صديقي مقصود:
أرى أنّه من الأدعياء يا محمود .
 فقلت: 
ماتراه أنت رأيته أنا ،
فتصرّف أو انطق باسمنا . 
فقال :
لقد تمشيّت معه البارحة قرب السور،
وأخبرني أنّه كاتب مشهور ،
له حضور في المجلّات والجرائد،
وهو في مجاله رائد،
ولم أجد بعد قوله نفسي قادراً على نصحه ، 
وخشيت من صدمه وجرحه ،
لذلك اتخذت قراري
وستسمع غداً أخباري .
 فقلت:
ثقتي بك كبيرة،ولكنّني أحبّ
أن تطلعني على كلّ صغيرة.
 فقال:
 لاتقلق فالأمر لايستحقّ،
وستجدني -بعون الله- في غاية الرفق.وافترقنا، 
وأنا لاأعلم علام عزم ، ولكنّني قلقت و لم أنم ،
فتناولت القلم والورق ،ورحت أصف ماأصابني من أرق:

 هل يستحقّ المدّعي      
         قلقي ويقظة أضلعي ؟ !

 وهــو الّذي لم يدخّر       
       جهـداً ليخدش مسمعي

 كم قد تجاهل زفرتي      
        وزرى بـآه توجّـعي!

 وشرى أناه وباعـني         
     وأراد سلبي موقـعي!

 ولو  أنـّه   أهـل  له       
        لوهبت خصمي مامعي

ولم يفلح المكتوب من أشعاري ،
 في إخماد ماتأجّج من ناري؛
فقمت إلى دارصديقي ، أشتكي له حريقي،
فضحك وقال :
تفضّل إذاً، وكن شريكي في الذي سترى،
وأرجو ألّا  يغلبك  الكرى، 
فتنعس وتنام ، قبل إنجاز الأمربالتمام.
ورأيته يحضر جريدة يوميّة
- كان قد فرشها تحت صينيّة-
ثمّ يجلس قربها وبيده قصاصة ورق رقيقة ، 
سبحت كفراشة في حديقة؛ 
عندما ألقاها من بعد شبرين ، فوق الجريدة ذات الوجهين،
وكان يلقي القصاصة ،مرّة على هذا ،ومرّة على ذاك ؛
 فتسقط  فوق كلمة هنا،وفوق أخرى هناك ، 
فيكتب الكلمات حسب تسلسل سقوطها دون تغيير، 
إلّا في حال التكرار ،فهو يعيد التطيير ،
حتّى اكتملت له مقطوعة عرجاء ،
لايكتبها -كشعر-إلّا الأدعياء، 
وفطنت إلى مايرمي فنظرت نظرة ارتياب، 
وقد خشيت أن يكون ذلك مجانباً للصواب ،
فلا ينتهي إلى خير،
إلا أنّني لم أجد فيه -بعد التمعّن -كبير ضير،
فعدت إلى بيتي ،وقد فارقني القلق إلّا قليلا ،
 وسرعان ماغفوت، ونمت طويلا،
ورأيت في اليوم التالي صديقي يسأل الحضور ،في استغراب:

هل تشرحون لي لم تفوز قصيدة كهذه  في مهرجان شعريّ ياشباب ؟.

وخطفها المدّعي من يده بانفعال ،ثمّ قرأها بصوت عال:

قصيدة بعنوان :

(استخدام)

طلائع السهل...
والرفاق...
أصابونا...
بإصرار...
لايهادن...
- - -
للمبدعين أثناء اختيارهم ...
مجلساً ...
بمشاعر...

ثمّ قال في تحسّر ،:

نعم هذا مثال على الشعر المجنّح ،
الذي إليه أصبو وأطمح،
وليتني شاركت !؛فشعري منه  قريب،
ولكن، (ليس لي في الطيّب نصيب).
مع تحيات عبدالحكيم ياسين
----------------------------


أصالة ومعاصرة..

لايمكن للمرء احتمال برد الشتاء..
في غرفة واسعة جرداء.. إلا إذا أشعل النار..
وأجّجها باستمرار ..واليوم تفقّدت برميل المحروقات..
فوجدته لايحوي إلا بضعة ليترات ..وخشيت من
ثلج الميلاد.. ومن البرد على الأولاد.. فأوصيت زوجتي
أن تناديني إذا سمعت صوت جارنا أبي رافع.. يمرّ
مع صهريجه في الشارع .. وبعد قليل نادتني بوجل..
وهي تقول :أسرع فالرجل قد وصل ..وصحت به من
فوق شرفتي.. فلم يسمع صرختي.. فكرّرت النداء.. حتى
ظفرت منه بالإصغاء .. ووعدني أن يعود بعد قليل..
لملء البرميل ..ولأنّني كنت أعاني من صداع مؤلم ..
فقد تمدّدت على فراشي، ورحت للنوم أستسلم ..
وفجأة صاحت بنيتي أريج :
أبي لقد جاء الصهريج  ..فأسرعت بما عليّ من ثياب..
ألتمس فتح الباب ..وفي الشارع رأيت مالم أكن أتوقّع ..
وفوجئت بما قد يكون الأبشع والأفظع ..فبائع المازوت
يمسك بصهريجه في عناء ..وبغله واقع ومتكوّم للوراء ..
والسيارات تمرّ محتارة ..ومن النوافذ يطلّ سكّان الحارة ..
وركضت في سرعة واستعجال ..وحاولت مساعدة البغل على الاعتدال ..
ولكن الوزن كان أثقل ممّا يحتمل.. وأوحال الطريق تصعّب العمل ..
ونظرت حولي نظر العاجز الحائر.. أشتكي بصمت حظّي العاثر..
وأنشد في يأس..
هذه الأبيات الخمس:
من للضعيف إذا وقع
وأراد تخفيف الوجع؟
هل يستفيد من النداء
لكي ينادي في فزع
أم حسبه أن يستعيذ
بمن إذا سئل استمع
فيقول ربّ ارحم عبادك
واكفهم شرّ الطمع
وابعث لهم جنداً يعين
على مواجهة الهلع
ولم أكد أفرغ من ارتجال هذه الأبيات ..
حتى تناهى إلى سمعي وقع خطوات ..
وحضر الرجال.. من أولاد الحلال ..
وشرعوا في فكّ الحبال وتخفيف الأثقال ..ولولاهم لساء الموقف
أكثر وأكثر ..ولتكسّر من عظام الحيوان مايمكن أن يتكسّر..
واستطعنا بالتعاون الصادق ..أن نفك الحيوان العالق.. ونحرره من
قيوده الحديدية.. ليقف على الأرض الاسفلتية.. ويتنفس الصعداء..
ويستنشق المزيد من الهواء.. ثمّ بالتعاون أيضاًأعدنا تقييده..
وقتلنا بذلك أحلامه السعيدة.. وانتهت محنتنا نحن بني الإنسان..
وعادت معاناة الحيوان إلى الذي قد كان ..
نحن غمرنا الرضى والفرح ..وهو انتكس وانجرح ..
وسألت نفسي هل سأشتري المازوت بعد اليوم ..
ممّن حرمني لذيذ النوم ..أم سأستمر في تشجيع هذا البائع 
المكافح ..على الكسب الحلال الرابح ..وما واجبي
الأخلاقي تجاه الأمر..هل أنا مأمور بالمزيد من الصبر..
أم أنّ هناك خيارات ..تعفيني من مثل هذه المخاطرات ..
منها أن أتصل بصهريج تحمله شاحنة ..
يناسب الظروف الراهنة ..

مع تحيات عبدالحكيم ياسين

----------------------

      ..كبير الراس يكتب قصّة..

اشتبك قريبا الحمارالكبيرالرأس..
في عراك امتزج فيه العضّ بالرفس ..
ولم يتوقّفاحتّى تعباكلّ التعب.. 
واضطرّا للتصالح  رفعاً للعتب.. 
بعد أن أقلقاالجميع ..وشوّها سمعة القطيع ..
وقد شهد صراع اليوم  مخلوقان صغيران.. 
على التقليد مفطوران ..رأيامن عشهمافوق الشجرة 
العضّات والرفسات..فراحا يقلّدانها بما عندهما
من أدوات.. حتّى سقطا فوق التراب.. وزحف صوبهما 
نمل ذو أنياب..والحمار مشغول بتطوير قدراته
الأدبيّة..مفكّر بكيفيّةالقيام بنقلة نوعيّة..
تخرجه من قفص الاتّباع ..وتطلقه صوب
فضاءات الإبداع ..وكي يجد المكان الأنسب للكتابة ..
يمّم وجهه شطر الغابة..ومشى مئات الأمتار..
مبتعداً عن المكان الذي حصل فيه الشجار. .
حتّى بلغ ظلال ياسمينة..عليها وقفت ببغاء بدينة .. 
ملّت -من زمان- ترديد ماتسمع.. وشغلها الارتقاء  إلى رتبة
أرفع ..ووجدت في الحمار الحائر..فرصةلتجربةدور متكلّم مبادر ..
فسألته بفضول:بم أنت ياطيّب مشغول..
قال الحمار:أريد كتابة قصّةناقدة..تجمع بين المتعة والفائدة..
لاأجرح بمعانيهامشاعر من يخالفني الرأي من الأحباب..
ولاأظلم من أكره فعله من الأصحاب..وربّما تكونين ياقاهرة الفضاء..
قدسمعت بالأخوة الأعداء ..الذين غلبهم الطمع..واعماهم الجشع..
وأرادواكلّ شيءبأيّة وسيلة..حتى لو فنيت دونه القبيلة..
وعندما يحيق الخطر بالجميع..
فالتحذير منه واجب على المستطيع..ولكن حبّذا
لو أشرت عليّ ياابنة الغابة .. في أنسب سبيل للكتابة ..
قالت الببغاء:أحسنت ياحمار..فماخاب من استشار..
إن هوأعمل فكره في الآراء.. وسلم من شراك الأهواء..
قال الحمار: أوجزي إذا سمحت..قالت :سمعت جارنا
الإنسان..يقصّ على ولده قصّة بلسان الحيوان..
ففهمت منها أنّه يحضّه على الاستعداد للشتاء..
بدلاً من هدر الصيف في الغناء..فلماذا لاتقلب
الآية ..وتروي بلسانه الرواية..فيفطن قومك
للقصد..دون أن توقد في صدورهم نيران الحقد..
وهم إن لاموك وجانبوا حكمة الحكماء..كانوا مستحقين
لكلّ ازدراء..ومن منهم لم يفعل..
تكون قد سلكت إلى نصحه السبيل الأفضل..
قال الحمار:فماذا اقول لمن لم يفهم..
قالت:فليذهب إلى جهنّم..
قال:شكراًلك ياصاحبة المنقار..
وليت لي غير ذلك الخيار..
ثمّ إنّه مال إلى القلم فخطّ به هذه القصّة:      
واحد من البشر رفس نسيبه..وعضّ قريبه..
الذي لم ينهق ببنت شفه..
ولم يقابل السفه بالسفه..
بل بادر إلى الغفران..رغم امتلاكه للحوافر والأسنان..
غير أنّ المعتدي تمادى وبالسوءنهق ..
ثمّ بالغ وبوجه المتسامح بصق..
وكاد أن يفعل ماهو أعظم من تلك الأفعال..
لولا أنّ الأرض انشقت وابتلعته في الحال..
ثمّ نزلت في الشقّ صاعقة فأحرقته.. 
وتلتها زوبعةحملت رماده معها وذرته..
لماذا؟ لأنّ في السماء من يرى ويسمع..
وغضبه إذا نزل لايدفع..
قال الحمار الكاتب للببغاء :
القصّة انتهت ياابنة النبلاء..فهل عندك من نقد بنّاء؟
قالت :أخشى ألّا يتّسع لنقدي صدرك الرحب..
فتغضب ويتلاشى مابيننا من قربّ..
قال الحمار:مادام الكلام بيننا
لايسمعه أحد ..فهو لي زينةوسند..ومن يدري
فقد اقتنع بما تذهبين إليه..فأحذف من النصّ
أو أزيد عليه..ويكون لك أجر الإصلاح..
وفضل في صناعةالنجاح..قالت :
مادمت قد أذنت لي في النقد..ووعدتني
بقبوله من غير وجد..فأرى ان تستبدل الرفس
بالنقر..والعضّ بالخدش بالمخالب..والنهيق
بتقليد صوت النسيب..والبصق لابأس به بل هو رهيب..
أما الحوافر والاْسنان فمع النقر والخدش ليس لها مكان..
وليس عندي ماأضيفه إلى ماذكرت لك ..فالبناء
المنطقي متين..والقيم التي يدعو إليها
سامية..والتشويق حاضر..والسبك ساحر..
رغم خلوّالنصّ من الإنشاء ..كنشرات الأنباء..
قال الحمار:شكراً لك ياصاحبة المنقار..لن أهمل
ماأتحفتني به من أفكار ..وسأعتمدهاإن أعجبت
صديقتي الذبابة..التي قالت لي ذات يوم:
إنّ الناقد المبدع لاينظر فقط إلى الكتلة..
بل إليها وإلى مايحيط بها من فراغ..فيبحث
عمّا سكت عنه الكاتب ولم يقله..ممّا يلامس الموضوع..
في  المسموح والممنوع..فإن كان في المسموح
وتجاوزه الكاتب فإيجاز أو غفلة..وإن كان 
في الممنوع فخوف من المخلوق أو خشية من الخالق..
وشتّان بينهما..قالت الببغاء: فما الذي سكتّ عنه
في قصّتك ولم تقله..قال الحمار:لم أقل إنّ العراك
الذي جرى بين بطلي قصّتي كان تحت شجرةدردار ..وعلى
غصن من أغصانها عشّ فيه أفراخ صغار.. راحت
تقلّد ماترى.. فسقطت من العشّ  فوق الثرى ..
سارعت الببغاءبالطيران وهي تقول:أيّها البائس
الآن أعلم لماذا لايتوقّّف جارنا الإنسان عن وصف
ولده بالحمار..كلمّاارتكب حماقة..
----------------------------------------

  قراءة في القصّة:
رأيت في كبير الرأس :
المنطق الأعور الذي لايرى إلاالجهة التي يروق له النظر إليها ..
فلايدرك الأولويات ولا يوظّف الخبرات ..وعندما يتكلّم لايصوّر المنظر
كما يجب أن يظهر.ورأيت في الببغاء راعية أدركت خطورة
التقليد وعندما انشغلت بالبحث عن مخرج
شغلها البحث عن مخاطركارثيّة لم تحسب لها حساباً.
أحداث القصة بالإجمال:ضياع الأولويات في ظلّ مايهدّد الحياة.
----------------------------------------
الحكمة: البحث عن الحقيقة يوصلك إليها ..
ولكنّه عندما يكون متأخرّاً جدّاً يشغلك عن قطف ثمرتها..
----------------------------------------
مع تحيات عبدالحكيم ياسين
-----------------------------------------------------------------

أمل
اسمها ينتهي بعكّاز..ورسمها أقرب للألغاز..
واقفة كشجرة جرداء..في طريق الرجاء..وحولها
حرسها الساهر..يسدّ المعابر..أمّا هي ..
فتلبس ماشاءت ..وتنطق كيف شاءت..
كائدة لمن لاينشرح..وماكرة بمن لايمتدح..
وذات يوم ..مرّا في القرب..
عجوز أبلّ من عارض لئيم..وولده اليتيم..
وكانت هي في نوبة من نوبات تجرّدها..ترفع ماترفع ..
من تأملاتها..وتحقّق بعض الأقدام زيادة ..
عمّا تبلغه في العادة..
متلوّية حول شجرة زرعتها على الرصيف..
بعد أن اقتلعتها من بستان جارها الكفيف..أمّا
العجوزفلاحظ المشهد..فأشاح ولم يتردّد ..
وأمّاالصغيرالجائع فسمّر عينيه في موضع اللبن..
ظانّاً أمّه قد خرجت من الكفن ..وكادا يعبران ..لولا
أن غمزت بعينها للحرس ..فزمجر ورفس..
وطلب العلامة ..مقابل السلامة ..وعندما لم يحصل
على المراد ..وقوبل بالرفض والعناد ..
ابتلع الغصّة..ونصب المنصّة ..وقال بغضب:
أيّها المتصابي..حاولت الإغراء باصطناع الحياء ..
وولدك المتغابي ..تسوّل السوائل..بكفّ الغافل
الجاهل..لئن لم تدفعا الغرامة ..
وقعتما في الندامة..قال العجوز:
أعقوبة لمن أشاح ..وعقوبة لمن نظر..أفهمنيها بالمختصر..
قال قاضي اللحظة:عندنا لكلّ مثقال ميزان..وماالشيبان
كالولدان ..قال العجوز:فما هو وزري ..ياطويل العمر؟
قال القاضي:مطلوب من أمثالك التسبيح ..عند رؤية
المليح..وأن تتأمل بدل أن تشيح ..
قال:وماجريرة الصغير ..وهو غير خبير؟
قال:مجيئه إلى هذا العالم دون استئذان ..وجرأته
البادية للعيان ..قال العجوز:وماذا ندفع ..؟
قال القاضي:أفرغ جيوبك واعتذر ممّا حصل..
واكتب لنا عهداً بإصلاح المقل..فإذا مررت ولم
تحدّق ذات يوم ..ذقت ماذاقت أمل ..
قال العجوز: ومن أمل هذه ..؟
قال القاضي :امرأة سمراء ..تجلببت برداء..
ولم تنزل عن بعضه للناس..وتركتهم منها في ياس ..
قال العجوز:هل هي متوسّطة القامة ..مرفوعة الهامة ..
حثيثة الخطوات..خافتة الأصوات ..؟
قال القاضي:بلى ..
قال العجوز:فأين هي الآن ..؟
قال القاضي:في خبر كان ..
ومدّ العجوز يده إلى تلابيب القاضي فأخذ بجمعها ..
وشدّه إليه وهو يهمس:لقد يتّمتم حفيدي ..
وأبليتم جديدي ..وثمن ذلك فادح..وبه لن أسامح ..
انتزع القاضي نفسه من القبضةوصاح:
يامسرور..أطح بهذا المغرور..وألحق به جروه
المسعور ..وعلقّهما على أخشاب ..ليكونا عبرة
لكلّ وثّاب ..ودارت معركة غير متوقّعة ..
ثار منها جبل غبار ..فمنع من معرفة ماصار..
واستمر سائر اليوم..حتى حان موعد النوم ..
فقام الكاتب وأطفأ النور..بينما ظلّت هي تدور ..
مع تحيات عبدالحكيم ياسين
-----------------------------




























  



 
 

مجموعة من قصصي الرمزية التي نشرت في المنتديات الأدبية بين عامي 2007-2009

الحمار الذكي
            

درّب فلّاح حماره على حمل متاعه
من أماكن مختلفة ذهاباً وإياباً من البيت وإليه..
وراح يتباهى بأنّه يستفيد من وقته بصورة مثالية
فهو يحفر الأرض في الوقت الذي يقوم فيه حماره بتوصيل
المحصول المكوّم في كوخ الحقل إلى البيت...
وتضايق جاره من كثرة تباهيه فربط حمارته(إتانه)
في الطريق ووضع أمامها كومة من الأعشاب الغضّة الطرية
بعد أن غسلها ونظّفها ومشط لها وبرها وشعرها..
الأمر الذي جعل الحمار الذكي يتوقّف للفرجة أولاً
ثمّ يقترب متودّداً ثم يحاول مشاركة الأتان 
الطعام والهواء والأحمال فوق ظهره..
تضايقت الأتان من منظر الأحمال على ظهر الحمار
والتي تدلّ على الذلّ والخنوع فعاملته بجفاء وازدراء..
ممّا أثار سخطه وغضبه ..
فالاحتقار من الناس أمر عاديّ ومألوف 
ولكنّه من أتان أمر خطير وغير محتمل..
وتعبيراً عن الغضب ألقى الحمار الأحمال أمام الأتان 
وراح يرفسها بكلّ قوة..
وفوجيء هو والأتان بأنّها كوم من الدريس ممّا لذ وطاب
فراحا يأكلان منها في ابتهاج وفرح..
وتساءل الحمار الذكي عن السبب الذي يدفعه
لحمل هذه الأطايب التي لم يذقها من قبل 
من مكان إلى مكان وهو قانع راض...
وفي تلك اللحظة انهالت على ظهره عصا غليظة قاسية
ضرباً ووكزاً وصدمت مسامعه مفردات سباب بذيء لم يسمع مثله قط ..
من صاحبه الغاضب..
وهكذا عرف السبب وبطل العجب..
------------------

مع تحيات عبدالحكيم ياسين
-------------------------------------------------------------الفأر الأقل حظاً

                  

عثر فأر نشيط على تجويف صخريّ حصين
تتساقط في زاوية منه قطرات ماء وتنمو أعشاب غضّة...
فهتف :
ماء وخضرة وظلال وأمان..
لا بدّ من أن أتخذ من هذا المكان الرائع مسكناً..
ولكي لا أكون وحيداً سأقنع فرفورة ابنة خالتي بالزواج بي..
ولكي لا نجوع لابدّ من جمع القشّ والحبوب والثمار..
وهكذا شرع الفأر النشيط في جمع ما يريد حتّى امتلأ التجويف بالمؤونة..
وأسرع إلى فرفورة وحدّثها عن سرّه الكبير..
فأسرعت معه صوب بيت المستقبل حالمة بالثراء والهناء..
ولكنّ البومة الأكثر حكمة انقضت على الفأر الأقل حظاً 
والتهمته والتهمت معه أحلامه وأحلام رفيقته 
وفوق كلّ ذلك التهمت سرّه الذي لم تكن فرفورة بعد
قد عرفت منه إلّا أنّه موجود أمّا أين فلم تعلم..
لذلك فقد بكت مرّة من أجل فقد الشريك ومرّة من أجل فقد الثروة..
لقد فقدت الحبيب والحبوب..
وهتفت بألم:
يا صاحب الأحلام الوردية..اعلم أنّك لست الوحيد في هذا العالم..
واعلم أنّ أعداءك لا يكترثون لحجم أحلامك ولا لضياع جهودك..
واعلم أنّ الدنيا ليست مكاناً آمناً فلا تركن إليها وتنسى مابعدها..
وهكذا كما تلاحظ عزيزي القاريء نطقت الفأرة بالحكمة..ويا لها من ثروة..
-----------------------------

مع تحيّات:عبدالحكيم ياسين

-------------------------------------------------------------الصرصور يغرق النملة

                 

النملة لا تحبّ اللهو أبداً..
تخبّيء ماتجمعه في أمكنة لاتخطرعلى بال ..
ولكنّ الصرصورالذي لا يفعل شيئاً غير مراقبتها..
يلبس لباس الطيبة والوقار ويذهب الى العظاءة الجائعة العمياء
ويقول لها:أنا مخلوق يعشق المرح..
يحبّ الصخب والتجديد وجارتي النشيطةالرائعة لا تتوقّف عن العمل 
ولا تحيد عن طريقها الذي لا تغيّره أبداً...إنّك ترينها هناك..
تتلمّسينها حالما يسطع ضوء النهار..وأحياناً في الليالي المقمرة..
تعمل دون كلل..كم أحبّ فيها ذلك الطبع ..
رغم أنّني مختلف تماماً..
وتهزّ العظاءةرأسها وتسأل:
هل تعتقد أن طعم النمل طيّب مثلما أعتقد أنا؟ 
ويتجاهل الصرصور السؤال..ويقول:
يا لها من صبورة..تمرّ من نفس المكان دائماً..
طريق صنعته بنفسها..تعرفينه أنت تماماً..
يمرّ بمحاذاة الصخرة التي تقفين عليها لتوديع الشمس كلّ مساء...
قد تمرّ قربك تماماً وهي مشغولة عنك بجمع القشّ والحبّ..
لا تسمعك ولا تسمعينها..
وفي مكان آخر ترى الصرصور يمتدح النملة قائلاً :
اسمع أيّها المخلوق الذي لا أعرف اسمه..
إننّي أراك مهتماً كثيراً بالحبوب..لا بدّ أنّك تجدها لذيذة جداً..
مثل جارتي النملة الرائعة..أروع جارة..
طيّبة جدّاً ولم تؤذني قط..وفوق كلّ ذلك خارقة الذكاء..
إنها لفرط حكمتها تخبّيء كمّيات كبيرة من القمح 
في حفرة تحت الأرض هناك قرب الجذع اليابس
لشجرة التفّاح التي ضربتها الصاعقة ..إنّك تعرفها أنا متأكّد ..
رأيتك يوم فاض النهر مع اثنين من رفاقك تعتليان الجذع..
إنّه مكان مقفر لا يطرقه أحد..
ولكنّها بذكائها النادرجعلته مخزناً لغلّاتها ..
بالله عليك أليست جديرة بكلّ تقدير.؟.
لقد قالت لي في آخر مرّة:
أيّها الجارالطيب..إنّك تغرقني بمديحك المستمرّوتحاصرني به..
أرجوك توقّف عن ذلك..
أتدري أيّها المخلوق ماذا قلت لها؟
لقد قلت لها: يا لك من متواضعة..
تتواضعين وأنت في قمّة المجد...
تعطين لي الحبّ في أيّام البرد والحاجة ..
تحتملين فضولي وصخبي طوال الليل
وفوق كلّ ذلك تتواضعين وتتحلّمين..
انت حقّاً تستحقين المديح..
ولسبب ما  لا تعثر العظاءة على النملة..
ولا يهتدي المخلوق إلى الحبوب 
ولا يتوقّف الصرصورعن المديح والثرثرة والمراقبة.. 
ولا تنتهي هذه القصّة ابداً ابداً....
--------------------

مع تحيات عبدالحكيم ياسين
-----------------------------------------------------------

                       أهلا ًبالمولود الجديد

غزال صغير جميل يولد للتو....يسقط على الأرض
الطرية..ملطخاً بالدماء...يغالب ضعفه وينهض...
وقبل أن تلعقه أمه اللعقات الأولى..تتحلق حوله
ثلة من الضباع ..يمسكه أحدها من فخذه ويهوي به
إلى الأرض ..ويختلط الألم والخوف بالدهشة والسخط
ولا يتسع المكان ولا الزمان لتساؤل لاح في العيون
الضارعة المتألمة..لماذا أنا هنا؟من صديقي ومن عدوي
؟كيف وماذا ولم؟ ويأتي الجواب نهشات ومخالب...ثم يطبق 
ظلام أكثر رحمة ..ظلام تنتهي عنده الالام والأسئلة معاً..وتهتف الأم المنهكة :
ندمت على جلب طفل بريء
إلى عالم مستغل دنيء
يزين للعين زهر الحقول
وفي الزهرزحف لداء خبيء
يضيق المعاش على كل بر
ويصفو ويهنا لنذل قميء
ويرفع كأس خلي رخيص
ويرمى بكأس ثمين مليء
فلاعشت يوماً ولا طال عمري
بهذا الزمان الغبي الرديء
إذا لم أناطح برأس عنيد
جباه اللئام ووجه المسيء

مع تحيات عبدالحكيم ياسين
---------------------------------------------------
كلمة طيبة
 

قال الجدّ لحفيده:
ولدي العزيز،للكلمة الطيبّة مفعول 
سحريّ،استخدمها في موضعها،
وستجد أنّها أمضى من أيّ سلاح .

وذات يوم ، توغّل الفتى في الغابة ،
غير هيّاب ، ففي يده سلاح لايقاوم ،

وفي عمق الظلام  لمع شيء ما ،

ثمّ اعترض -فجأة- درب 
 الحفيد ذئب وزمجر،

همّ الفتى برفع عصاه ،ولكنّه تذكّر 
الكلمة الطيّبة، فهمس بلطف:

أيّها الكائن الجميل المهيب ..على بعد
عشرات الأمتار من هنا يرقد خروف
صغير بلا حراك ، وأظنّه سقط من
فوق صخرة ومات ،ولحمه مازال 
طازجاً طريّاً ؛ فاذهب إلى هناك ،واملأ 
بطنك الخاوية،واقبل صداقتي وكن حليفي ..

ولكنّ الذئب هزّ رأسه رافضاً العرض السخيّ،
وتقدّم صوب الفتى وهو يكزّ على أسنانه ،

قال الفتى :
أيّها الذئب الشجاع أستطيع الاستغناء
عن نصف طعامي وهومن لحم العجل
المطبوخ ؛فتفضّل بالتهامه هنيئاً مريئاً، 
ومدّ يده به للذئب،فأطبق الوحش على
اليد ،وشدّها إليه بعنف حتّى خلع قطعة
منها ،وراح يمضغها بتلذّذ..

وأسرع الفتى يضمّد جرحه بمزقة من
قميصه وهو يناجي نفسه :
لن أستسلم لليأس ..الكلمة الطيّبة
لاتؤتي أكلها دون تضحيات ..

وصاح مخاطباً الذئب:
أيّها الذئب الجسور لتكن هذه القطعة
من لحمي عربون صداقة ،وهديّة إعجاب
بروحك العمليّة، وتعبيراً عن تفهّمي لجوعك
وعجزك عن ضبط سلطانه ..

ولكنّ الذئب وثب إلى رجل الفتى
الغضّة ،فانتهش منها نهشة ،
وراح يلوكها بطرف أسنانه،
وهو يغرز أقدامه في الأرض استعداداً
للوثبة التالية ..

والفتى الجريح ،يضمّد بمزقة أخرى من قميصه،
جراحه الثانية ويصيح:
فلتكن القطعة الأخرى من لحمي
توكيداً لإعجابي بك ،وإثباتاً لصدق نيّتي في
طلب صداقتك وكسب ودّك ونيل احترامك ..

ولكنّ الذئب الذي ملّ سماع الصوت الودود،
وذاق طعم اللحم الغضّ العود ،رنا هذه المرّة
صوب عنق الصبي وهمّ بالوثوب ..

وفطن الفتى إلى الخطر المحدق به ،
و تذكّر- للحظة -أنّ الكلمة الطيّبة هنا
ليست في موضعها ،فرفع عصاه المدبّبة 
بيده السليمة وطعن بهاعين الذئب المتغطرس
ففقأها ثمّ همّ بتسديد الطعنة الثانية لعينه 
الأخرى إلا أنّه لم يفعل ، فقد بدت له
مطفأة ..وبهاآثار طعنة قديمة ..
مع تحيات عبدالحكبم ياسين
-----------------

من كتابات 2012-قصة مسجوعة بعنوان: كبير الرأس يكتب

كبير الرأس يكتب..       تعارك قريبا الحمار.. حتّى سدّا الآفاق بالغبار.. وماتوقّفا إلّا بعد أن نال منهما التعب..  ورضيا بالصلح  رفعاً...