السبت، 9 ديسمبر 2017

فن المقامة عند عبدالحكيم ياسين من كتابات2007-2009

الثور واللبوة

كبرت اللبوة الآن ..وصار لها مخالب وأسنان..
وجسمها الذي برزت فيه عضلات..اعتمد دائماً على صيد الأخوات..
ولطالما شبع من غير تعب..ولم يستمع في ذلك لعتب..
حتّى جاء اليوم الذي وجدت فيه نفسها وحيدة..
وأدركت عواقب طباعها العنيدة..
فوقت التعلّم قد فات..والفرائس لاتنال بالأمنيات..
والمهارة..والجسارة.. ماينقصها اليوم..وعليها
وحدها يقع اللوم..ولكن مانفع الندم والحسرات..
في مواجهة جوع ذي عضّات ..
إلّاأنّ رحمة الله واسعة..تنزل على النفوس الضائعة..
لعلها تتذكّر فضله فتشكره على ماأنعم..
أو تكون عبرة لغيرها فيتعلّم..
وذلك أنّ اللبوة التي تضرب خبط عشواء..
وجدت نفسها في مواجهة ثور عجوز يشتهي الفناء..
فقد نخرت جسده الأسقام..وأصبحت حياته سلسلة آلام..
ولمّا رآها تزمجر وتكشّر ..ابتسم ابتسامة مستبشر..
وأسلم لأنيابها جلده القاسي مغمضاً عينيه..
وأسنانها تحاول النفاذ إليه..ولكنّها عجزت عن اختراقه..
واضطرها التعب لفراقه..
فراحت تدفع جسده الهائل ليسقط فوق الأحطاب..
البارزة فوق الأرض كالحراب.. 
ولم تستطع..
فهمست تقول للثور وهو يستمع:
لماذا لاتدافع عن نفسك أيّها البائس..كغيرك من الفرائس..
فقال يا مليكة الغابات :
لقد سبق أن نهشتني السباع عشرات المرّات..
وتذوّقت ألم الجراح ..وأعرف الجدّ من المزاح..
وماأراك جادّة في قتلي..أم أنّك ضعيفة مثلي؟..
ولست بحاجة للدفاع عن نفس أتمنّى لها الهلاك..
وأظنّك ذلك المنقذ الملاك..
الذي سينهي آلامي..ويحقّق أحلامي..
إلّا إذا كنت أنت أيضاً محتاجة للإنقاذ..وباحثة عن ملاذ..
فإذا كنت تريدين هلاكي كما أريده فمري بما شئت تطاعي..
وأسرعي في إخماد أوجاعي..وانتزاع روحي من بين أضلاعي..
فانشرح صدر اللبوة المتعبة ممّا قال الثور..
وزال قلقها على الفور..
وقالت: أنا متعبة من جولة صيد في الحرش..
صرعت خلالها أربعة من حمر الوحش..
وتركتها لملك الغابة السابعة..وحرمت نفسي الجائعة..
ولو لم تثبّط بيأسك من نفسك عزيمتي..لكنت أريتك قوّة شكيمتي..
وعلى كلّ حال..وما دمت  لاتعتزم القتال..فاسقط من فضلك
على الأرض بعنف..ريثما استعيد قواي وأتخلّص من الضعف..
وظنّها الثور صادقة فأهوى بجسده الثقيل ..
على خشبة بارزة كإزميل.. 
فانكسرت وانغرزت كنصل قاتل  ..في جسد اللبوة الغافل..
فزمجرت وكزّت على أسنانها..وهوت فوقه ببنيانها..
متظاهرة بالسلامة ..وقائلة في ملامة:
أيّها الجثّة العفنة..لقد زكمت أنفي برائحتك النتنة..
قال:آسف أشدّ الأسف على عجزي..ومستعدّ للتعويض المجزي..
قالت:أحسّ بالظمأ والحرّ ياجاحد..وأحتاج لعقة من دمك البارد..
ولاأعرف حقّاً إن كان فيك دمّ..وأخشى أن تكون قد تجرّعت السمّ..
فضرب الثور رأسه بالجذع المقطوع..ولعق جراعه التي تفجّرت كينبوع..
ليبرهن لها عن نقاء دمه المهدور..فراحت تلعقه في حبور..
وقد أملت في أن ينزف فيموت..فتحصل بذلك على ماتنتظر من القوت..
وفجأة ظهر ضبع جائع.. وضحك بفجور..وكأنّه كشف المستور..
فقالت تواسي نفسها:
أظنّها ضحكته المعتادة..التي لاتعرف الزيادة..وماأظنّه يقصد الاستهزاء..
من ملكة تتناول طعام الغداء..
فقال الثور بعتب:لاأظنّه يملك للهزء أيّ سبب..فهاأنت يامولاتي تجثمين
فوق صدري..ودمي من عروقي بين شدقيك يجري..
وعلى كلّ حال :يأكلني سبع ..ولايأكلني ضبع..
فتظاهري يامليكتي المرهقة من الصيد طوال النهار..
بسحبي من رقبتي صوب الديار..وسأعينك على ذلك مااستطعت أن أعين..
لعلّ ذلك يخيف الضبع اللعين..فينصرف قبل أن يستبدّ بك الغضب..
وماكنت تتركينه يقترب لولا التعب..وشرعت اللبوة تتظاهر بسحب الثور..
وهو يجرّ نفسه ويخور بأشدّ الخور..إنجازاً لمسرحيّةّ الفريسة والصيّاد..
التي لم تكن بحاجة لإعداد..فعناصر النجاح متوفّرة ..
وفرص التحرّي لدى الضبع متعذّرة..ولكنّ اللبوة الخرقاء تعثّرت
وصدمت عينها بقرن الثور الحادّة كخنجر..فانتفضت متألّمةوراحت تزأر..
واستغرب الضبع غضبتها الهائلة..وظنّه مقدّمة لوثبة قاتلة..
وأذهلته مقدرتها على الجرّ..فقرّر البعد عن الشرّ ..
والتغنّي بالسلامة..بينما بقيت اللبوة القمّامة..
تحتال على الثور ليعينها على نفسه..
وبقي هو في مزيد من يأسه..
يساند للفوز بالممات..
من لم يتعلّم فنّون الحياة.
--------------------------------
مع تحيّات:عبدالحكيم ياسين
----------------------------------------------------------------------



شعر مجنّح:

أنا ومقصود صديقان،ورفيقان لايفترقان، 
يجمعنا تشابه في الواجبات،وتوحّدنا جملة اهتمامات ،
منها :كتابة الشعر منذ الطفولة؛
والميل فيه إلى الوضوح والسهولة ؛ 
ولنا في أنواعه كلّها محاولات ،أعجبت متذوّقيه والمتذوّقات ...
ولم نكن رغم ذلك معروفين ولامشهورين،
إلّا عند  زملائنا من الموظّفين ، 
وكان هؤلاء يستمتعون بما نكتب منه،
ويستشيروننا في كلّ شيء عنه، 
وذات يوم جاءنا موظّف جديد ، من مكان بعيد  ،
وراح ينشد أشعاره المنثورة ، بطريقة فجّة مغرورة ،
وكانت ضحلة المعاني ، ركيكة المباني ، 
لاابتكار فيها ولااتّباع،ولاموسيقا تطرب الأسماع،
بل ترنّح واضطراب،وهذيان يصدّع الألباب ،
 وكنّا نتشاغل عنه، مرّة بكأس الشاي ومايحتاجه من سكّر ،
 ومرّة بفتح وإغلاق كتاب أو دفتر،
 ولا أحد منّا يستمع إليه ،إلّا من أمسكه بيديه ،أو مال عليه،
 وطال به المقام ما طال ،وهو على هذه الحال،
واحتملنا منه الهراء، ولم يحتمل منّا الإغضاءوالحياء؛ 
بل راح يلومنا على إهمال ما ينثره من درر،
وامتناعنا عن تقريظ ما يلتقطه من صور،
حتّى برمنا به ونفد الصبر، وقرّرنا التشاور في الأمر، 
وقال صديقي مقصود:
أرى أنّه من الأدعياء يا محمود .
 فقلت: 
ماتراه أنت رأيته أنا ،
فتصرّف أو انطق باسمنا . 
فقال :
لقد تمشيّت معه البارحة قرب السور،
وأخبرني أنّه كاتب مشهور ،
له حضور في المجلّات والجرائد،
وهو في مجاله رائد،
ولم أجد بعد قوله نفسي قادراً على نصحه ، 
وخشيت من صدمه وجرحه ،
لذلك اتخذت قراري
وستسمع غداً أخباري .
 فقلت:
ثقتي بك كبيرة،ولكنّني أحبّ
أن تطلعني على كلّ صغيرة.
 فقال:
 لاتقلق فالأمر لايستحقّ،
وستجدني -بعون الله- في غاية الرفق.وافترقنا، 
وأنا لاأعلم علام عزم ، ولكنّني قلقت و لم أنم ،
فتناولت القلم والورق ،ورحت أصف ماأصابني من أرق:

 هل يستحقّ المدّعي      
         قلقي ويقظة أضلعي ؟ !

 وهــو الّذي لم يدخّر       
       جهـداً ليخدش مسمعي

 كم قد تجاهل زفرتي      
        وزرى بـآه توجّـعي!

 وشرى أناه وباعـني         
     وأراد سلبي موقـعي!

 ولو  أنـّه   أهـل  له       
        لوهبت خصمي مامعي

ولم يفلح المكتوب من أشعاري ،
 في إخماد ماتأجّج من ناري؛
فقمت إلى دارصديقي ، أشتكي له حريقي،
فضحك وقال :
تفضّل إذاً، وكن شريكي في الذي سترى،
وأرجو ألّا  يغلبك  الكرى، 
فتنعس وتنام ، قبل إنجاز الأمربالتمام.
ورأيته يحضر جريدة يوميّة
- كان قد فرشها تحت صينيّة-
ثمّ يجلس قربها وبيده قصاصة ورق رقيقة ، 
سبحت كفراشة في حديقة؛ 
عندما ألقاها من بعد شبرين ، فوق الجريدة ذات الوجهين،
وكان يلقي القصاصة ،مرّة على هذا ،ومرّة على ذاك ؛
 فتسقط  فوق كلمة هنا،وفوق أخرى هناك ، 
فيكتب الكلمات حسب تسلسل سقوطها دون تغيير، 
إلّا في حال التكرار ،فهو يعيد التطيير ،
حتّى اكتملت له مقطوعة عرجاء ،
لايكتبها -كشعر-إلّا الأدعياء، 
وفطنت إلى مايرمي فنظرت نظرة ارتياب، 
وقد خشيت أن يكون ذلك مجانباً للصواب ،
فلا ينتهي إلى خير،
إلا أنّني لم أجد فيه -بعد التمعّن -كبير ضير،
فعدت إلى بيتي ،وقد فارقني القلق إلّا قليلا ،
 وسرعان ماغفوت، ونمت طويلا،
ورأيت في اليوم التالي صديقي يسأل الحضور ،في استغراب:

هل تشرحون لي لم تفوز قصيدة كهذه  في مهرجان شعريّ ياشباب ؟.

وخطفها المدّعي من يده بانفعال ،ثمّ قرأها بصوت عال:

قصيدة بعنوان :

(استخدام)

طلائع السهل...
والرفاق...
أصابونا...
بإصرار...
لايهادن...
- - -
للمبدعين أثناء اختيارهم ...
مجلساً ...
بمشاعر...

ثمّ قال في تحسّر ،:

نعم هذا مثال على الشعر المجنّح ،
الذي إليه أصبو وأطمح،
وليتني شاركت !؛فشعري منه  قريب،
ولكن، (ليس لي في الطيّب نصيب).
مع تحيات عبدالحكيم ياسين
----------------------------


أصالة ومعاصرة..

لايمكن للمرء احتمال برد الشتاء..
في غرفة واسعة جرداء.. إلا إذا أشعل النار..
وأجّجها باستمرار ..واليوم تفقّدت برميل المحروقات..
فوجدته لايحوي إلا بضعة ليترات ..وخشيت من
ثلج الميلاد.. ومن البرد على الأولاد.. فأوصيت زوجتي
أن تناديني إذا سمعت صوت جارنا أبي رافع.. يمرّ
مع صهريجه في الشارع .. وبعد قليل نادتني بوجل..
وهي تقول :أسرع فالرجل قد وصل ..وصحت به من
فوق شرفتي.. فلم يسمع صرختي.. فكرّرت النداء.. حتى
ظفرت منه بالإصغاء .. ووعدني أن يعود بعد قليل..
لملء البرميل ..ولأنّني كنت أعاني من صداع مؤلم ..
فقد تمدّدت على فراشي، ورحت للنوم أستسلم ..
وفجأة صاحت بنيتي أريج :
أبي لقد جاء الصهريج  ..فأسرعت بما عليّ من ثياب..
ألتمس فتح الباب ..وفي الشارع رأيت مالم أكن أتوقّع ..
وفوجئت بما قد يكون الأبشع والأفظع ..فبائع المازوت
يمسك بصهريجه في عناء ..وبغله واقع ومتكوّم للوراء ..
والسيارات تمرّ محتارة ..ومن النوافذ يطلّ سكّان الحارة ..
وركضت في سرعة واستعجال ..وحاولت مساعدة البغل على الاعتدال ..
ولكن الوزن كان أثقل ممّا يحتمل.. وأوحال الطريق تصعّب العمل ..
ونظرت حولي نظر العاجز الحائر.. أشتكي بصمت حظّي العاثر..
وأنشد في يأس..
هذه الأبيات الخمس:
من للضعيف إذا وقع
وأراد تخفيف الوجع؟
هل يستفيد من النداء
لكي ينادي في فزع
أم حسبه أن يستعيذ
بمن إذا سئل استمع
فيقول ربّ ارحم عبادك
واكفهم شرّ الطمع
وابعث لهم جنداً يعين
على مواجهة الهلع
ولم أكد أفرغ من ارتجال هذه الأبيات ..
حتى تناهى إلى سمعي وقع خطوات ..
وحضر الرجال.. من أولاد الحلال ..
وشرعوا في فكّ الحبال وتخفيف الأثقال ..ولولاهم لساء الموقف
أكثر وأكثر ..ولتكسّر من عظام الحيوان مايمكن أن يتكسّر..
واستطعنا بالتعاون الصادق ..أن نفك الحيوان العالق.. ونحرره من
قيوده الحديدية.. ليقف على الأرض الاسفلتية.. ويتنفس الصعداء..
ويستنشق المزيد من الهواء.. ثمّ بالتعاون أيضاًأعدنا تقييده..
وقتلنا بذلك أحلامه السعيدة.. وانتهت محنتنا نحن بني الإنسان..
وعادت معاناة الحيوان إلى الذي قد كان ..
نحن غمرنا الرضى والفرح ..وهو انتكس وانجرح ..
وسألت نفسي هل سأشتري المازوت بعد اليوم ..
ممّن حرمني لذيذ النوم ..أم سأستمر في تشجيع هذا البائع 
المكافح ..على الكسب الحلال الرابح ..وما واجبي
الأخلاقي تجاه الأمر..هل أنا مأمور بالمزيد من الصبر..
أم أنّ هناك خيارات ..تعفيني من مثل هذه المخاطرات ..
منها أن أتصل بصهريج تحمله شاحنة ..
يناسب الظروف الراهنة ..

مع تحيات عبدالحكيم ياسين

----------------------

      ..كبير الراس يكتب قصّة..

اشتبك قريبا الحمارالكبيرالرأس..
في عراك امتزج فيه العضّ بالرفس ..
ولم يتوقّفاحتّى تعباكلّ التعب.. 
واضطرّا للتصالح  رفعاً للعتب.. 
بعد أن أقلقاالجميع ..وشوّها سمعة القطيع ..
وقد شهد صراع اليوم  مخلوقان صغيران.. 
على التقليد مفطوران ..رأيامن عشهمافوق الشجرة 
العضّات والرفسات..فراحا يقلّدانها بما عندهما
من أدوات.. حتّى سقطا فوق التراب.. وزحف صوبهما 
نمل ذو أنياب..والحمار مشغول بتطوير قدراته
الأدبيّة..مفكّر بكيفيّةالقيام بنقلة نوعيّة..
تخرجه من قفص الاتّباع ..وتطلقه صوب
فضاءات الإبداع ..وكي يجد المكان الأنسب للكتابة ..
يمّم وجهه شطر الغابة..ومشى مئات الأمتار..
مبتعداً عن المكان الذي حصل فيه الشجار. .
حتّى بلغ ظلال ياسمينة..عليها وقفت ببغاء بدينة .. 
ملّت -من زمان- ترديد ماتسمع.. وشغلها الارتقاء  إلى رتبة
أرفع ..ووجدت في الحمار الحائر..فرصةلتجربةدور متكلّم مبادر ..
فسألته بفضول:بم أنت ياطيّب مشغول..
قال الحمار:أريد كتابة قصّةناقدة..تجمع بين المتعة والفائدة..
لاأجرح بمعانيهامشاعر من يخالفني الرأي من الأحباب..
ولاأظلم من أكره فعله من الأصحاب..وربّما تكونين ياقاهرة الفضاء..
قدسمعت بالأخوة الأعداء ..الذين غلبهم الطمع..واعماهم الجشع..
وأرادواكلّ شيءبأيّة وسيلة..حتى لو فنيت دونه القبيلة..
وعندما يحيق الخطر بالجميع..
فالتحذير منه واجب على المستطيع..ولكن حبّذا
لو أشرت عليّ ياابنة الغابة .. في أنسب سبيل للكتابة ..
قالت الببغاء:أحسنت ياحمار..فماخاب من استشار..
إن هوأعمل فكره في الآراء.. وسلم من شراك الأهواء..
قال الحمار: أوجزي إذا سمحت..قالت :سمعت جارنا
الإنسان..يقصّ على ولده قصّة بلسان الحيوان..
ففهمت منها أنّه يحضّه على الاستعداد للشتاء..
بدلاً من هدر الصيف في الغناء..فلماذا لاتقلب
الآية ..وتروي بلسانه الرواية..فيفطن قومك
للقصد..دون أن توقد في صدورهم نيران الحقد..
وهم إن لاموك وجانبوا حكمة الحكماء..كانوا مستحقين
لكلّ ازدراء..ومن منهم لم يفعل..
تكون قد سلكت إلى نصحه السبيل الأفضل..
قال الحمار:فماذا اقول لمن لم يفهم..
قالت:فليذهب إلى جهنّم..
قال:شكراًلك ياصاحبة المنقار..
وليت لي غير ذلك الخيار..
ثمّ إنّه مال إلى القلم فخطّ به هذه القصّة:      
واحد من البشر رفس نسيبه..وعضّ قريبه..
الذي لم ينهق ببنت شفه..
ولم يقابل السفه بالسفه..
بل بادر إلى الغفران..رغم امتلاكه للحوافر والأسنان..
غير أنّ المعتدي تمادى وبالسوءنهق ..
ثمّ بالغ وبوجه المتسامح بصق..
وكاد أن يفعل ماهو أعظم من تلك الأفعال..
لولا أنّ الأرض انشقت وابتلعته في الحال..
ثمّ نزلت في الشقّ صاعقة فأحرقته.. 
وتلتها زوبعةحملت رماده معها وذرته..
لماذا؟ لأنّ في السماء من يرى ويسمع..
وغضبه إذا نزل لايدفع..
قال الحمار الكاتب للببغاء :
القصّة انتهت ياابنة النبلاء..فهل عندك من نقد بنّاء؟
قالت :أخشى ألّا يتّسع لنقدي صدرك الرحب..
فتغضب ويتلاشى مابيننا من قربّ..
قال الحمار:مادام الكلام بيننا
لايسمعه أحد ..فهو لي زينةوسند..ومن يدري
فقد اقتنع بما تذهبين إليه..فأحذف من النصّ
أو أزيد عليه..ويكون لك أجر الإصلاح..
وفضل في صناعةالنجاح..قالت :
مادمت قد أذنت لي في النقد..ووعدتني
بقبوله من غير وجد..فأرى ان تستبدل الرفس
بالنقر..والعضّ بالخدش بالمخالب..والنهيق
بتقليد صوت النسيب..والبصق لابأس به بل هو رهيب..
أما الحوافر والاْسنان فمع النقر والخدش ليس لها مكان..
وليس عندي ماأضيفه إلى ماذكرت لك ..فالبناء
المنطقي متين..والقيم التي يدعو إليها
سامية..والتشويق حاضر..والسبك ساحر..
رغم خلوّالنصّ من الإنشاء ..كنشرات الأنباء..
قال الحمار:شكراً لك ياصاحبة المنقار..لن أهمل
ماأتحفتني به من أفكار ..وسأعتمدهاإن أعجبت
صديقتي الذبابة..التي قالت لي ذات يوم:
إنّ الناقد المبدع لاينظر فقط إلى الكتلة..
بل إليها وإلى مايحيط بها من فراغ..فيبحث
عمّا سكت عنه الكاتب ولم يقله..ممّا يلامس الموضوع..
في  المسموح والممنوع..فإن كان في المسموح
وتجاوزه الكاتب فإيجاز أو غفلة..وإن كان 
في الممنوع فخوف من المخلوق أو خشية من الخالق..
وشتّان بينهما..قالت الببغاء: فما الذي سكتّ عنه
في قصّتك ولم تقله..قال الحمار:لم أقل إنّ العراك
الذي جرى بين بطلي قصّتي كان تحت شجرةدردار ..وعلى
غصن من أغصانها عشّ فيه أفراخ صغار.. راحت
تقلّد ماترى.. فسقطت من العشّ  فوق الثرى ..
سارعت الببغاءبالطيران وهي تقول:أيّها البائس
الآن أعلم لماذا لايتوقّّف جارنا الإنسان عن وصف
ولده بالحمار..كلمّاارتكب حماقة..
----------------------------------------

  قراءة في القصّة:
رأيت في كبير الرأس :
المنطق الأعور الذي لايرى إلاالجهة التي يروق له النظر إليها ..
فلايدرك الأولويات ولا يوظّف الخبرات ..وعندما يتكلّم لايصوّر المنظر
كما يجب أن يظهر.ورأيت في الببغاء راعية أدركت خطورة
التقليد وعندما انشغلت بالبحث عن مخرج
شغلها البحث عن مخاطركارثيّة لم تحسب لها حساباً.
أحداث القصة بالإجمال:ضياع الأولويات في ظلّ مايهدّد الحياة.
----------------------------------------
الحكمة: البحث عن الحقيقة يوصلك إليها ..
ولكنّه عندما يكون متأخرّاً جدّاً يشغلك عن قطف ثمرتها..
----------------------------------------
مع تحيات عبدالحكيم ياسين
-----------------------------------------------------------------

أمل
اسمها ينتهي بعكّاز..ورسمها أقرب للألغاز..
واقفة كشجرة جرداء..في طريق الرجاء..وحولها
حرسها الساهر..يسدّ المعابر..أمّا هي ..
فتلبس ماشاءت ..وتنطق كيف شاءت..
كائدة لمن لاينشرح..وماكرة بمن لايمتدح..
وذات يوم ..مرّا في القرب..
عجوز أبلّ من عارض لئيم..وولده اليتيم..
وكانت هي في نوبة من نوبات تجرّدها..ترفع ماترفع ..
من تأملاتها..وتحقّق بعض الأقدام زيادة ..
عمّا تبلغه في العادة..
متلوّية حول شجرة زرعتها على الرصيف..
بعد أن اقتلعتها من بستان جارها الكفيف..أمّا
العجوزفلاحظ المشهد..فأشاح ولم يتردّد ..
وأمّاالصغيرالجائع فسمّر عينيه في موضع اللبن..
ظانّاً أمّه قد خرجت من الكفن ..وكادا يعبران ..لولا
أن غمزت بعينها للحرس ..فزمجر ورفس..
وطلب العلامة ..مقابل السلامة ..وعندما لم يحصل
على المراد ..وقوبل بالرفض والعناد ..
ابتلع الغصّة..ونصب المنصّة ..وقال بغضب:
أيّها المتصابي..حاولت الإغراء باصطناع الحياء ..
وولدك المتغابي ..تسوّل السوائل..بكفّ الغافل
الجاهل..لئن لم تدفعا الغرامة ..
وقعتما في الندامة..قال العجوز:
أعقوبة لمن أشاح ..وعقوبة لمن نظر..أفهمنيها بالمختصر..
قال قاضي اللحظة:عندنا لكلّ مثقال ميزان..وماالشيبان
كالولدان ..قال العجوز:فما هو وزري ..ياطويل العمر؟
قال القاضي:مطلوب من أمثالك التسبيح ..عند رؤية
المليح..وأن تتأمل بدل أن تشيح ..
قال:وماجريرة الصغير ..وهو غير خبير؟
قال:مجيئه إلى هذا العالم دون استئذان ..وجرأته
البادية للعيان ..قال العجوز:وماذا ندفع ..؟
قال القاضي:أفرغ جيوبك واعتذر ممّا حصل..
واكتب لنا عهداً بإصلاح المقل..فإذا مررت ولم
تحدّق ذات يوم ..ذقت ماذاقت أمل ..
قال العجوز: ومن أمل هذه ..؟
قال القاضي :امرأة سمراء ..تجلببت برداء..
ولم تنزل عن بعضه للناس..وتركتهم منها في ياس ..
قال العجوز:هل هي متوسّطة القامة ..مرفوعة الهامة ..
حثيثة الخطوات..خافتة الأصوات ..؟
قال القاضي:بلى ..
قال العجوز:فأين هي الآن ..؟
قال القاضي:في خبر كان ..
ومدّ العجوز يده إلى تلابيب القاضي فأخذ بجمعها ..
وشدّه إليه وهو يهمس:لقد يتّمتم حفيدي ..
وأبليتم جديدي ..وثمن ذلك فادح..وبه لن أسامح ..
انتزع القاضي نفسه من القبضةوصاح:
يامسرور..أطح بهذا المغرور..وألحق به جروه
المسعور ..وعلقّهما على أخشاب ..ليكونا عبرة
لكلّ وثّاب ..ودارت معركة غير متوقّعة ..
ثار منها جبل غبار ..فمنع من معرفة ماصار..
واستمر سائر اليوم..حتى حان موعد النوم ..
فقام الكاتب وأطفأ النور..بينما ظلّت هي تدور ..
مع تحيات عبدالحكيم ياسين
-----------------------------




























  



 
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

من كتابات 2012-قصة مسجوعة بعنوان: كبير الرأس يكتب

كبير الرأس يكتب..       تعارك قريبا الحمار.. حتّى سدّا الآفاق بالغبار.. وماتوقّفا إلّا بعد أن نال منهما التعب..  ورضيا بالصلح  رفعاً...